تَبَنَّت مدرسةٌ ثانويّة في شيكاغو -الولايات المتحدة الأمريكية- فكرةً تقومُ بمنحِ الطلبة الذين لم يجتازوا مادةً ما، درجةَ (ليس بعد) (Not Yet). هل تتفق معنا بأنَّ هذا الأمر رائع؟ إذا حصل الطالب على درجة راسب، فسيفكر بأَنَّه كذلك، وهذا لن يقودَهُ إلى مكانٍ أَبعَدَ مما يَقِفُ عَليه الآن، ولكن إذا حَصَلَ على تقدير "ليس بعد"، فسيفهم أنَّهُ في مُنحنى التعلّم، وهو ما يَمنحُه فرصةً أُخرى للمحاولة، ويُعطيهِ أَملاً أكبر في مستقبلٍ مشرق، نتيجة نوعٍ من الإيحاء الإيجابيّ الذي تعكسه هذه العبارة. فهل تُدرك عزيزي المُعلّم، كم للعبارات التي نلقيها على مسامع أبنائنا أثرٌ في خلق الدافع للتعلّم، ورفع ثقتهم بأنفسهم؟

سنُعَرِّف في هذه المقالة الإيحاء، ونُسلّط الضوءَ سريعاً على نوعَيه ومصادرِهِما، ثم نتحدث عن أثره في شَحذ طاقة الطلبة لتحقيق أهدافهم مِن وراء عَملية التعلم؛ من خلال استعراض نتائج دراسة مُطَوّلة أُجريت في جامعة ستانفورد حَولَ تأثير مُعتقداتنا اللاواعية على كيفية تحقيقنا للنجاح، وما لها من آثارٍ عميقةٍ على خَياراتنا وسلوكياتنا وقدرتنا على تحقيق أهدافنا. وفي نهاية المقال، سنقدم إليك عزيزي القارئ اقتراحاتٍ لبناء بيئة تعلّم إيجابيّة.

مفهوم الإيحاء: أنواعه ومصادره

للإيحاء في اللغة مفاهيمُ ومعانٍ متعددة، فهو كلُّ ما توصِلُهُ إلى غَيرِكَ بالإِشارةِ وما خفيَ من معاني الكلامِ، وهو إِلقاءُ المَعنى في النفسِ بخفاءٍ وسرعة، وهو اقتراحٌ أو تَلميحٌ أو فِكرةٌ تُنْقَلُ إلى الشخصِ من خِلال الحواس المادية (اللمس، السمع، الشم)، أو مُباشرةً من العقلِ إلى العقل.

ولا يُشترط أن يأتي الإيحاءُ من مصدرٍ خارجيّ فقط، بل قد يأتي من داخل المرءِ نفسِهِ، ليُعرف في عِلم النفسِ بالإيحاء الذاتي: وهو عمليةٌ عقليةٌ تَنتهي بقبولِ الفردِ للأفكارِ التي تولد في ذاتِه دون نقدٍ أو تَحقُق.

وهذِهِ الإيحاءات مهما كان نوعُها (إيجابياً أو سلبياً)، ومهما كانَ مَصدَرُها (خارجياً أو داخلياً)، وأياً كانت محفزاتُهُا في بيئةِ التعلم (العاطفة، الإيماءات غيرُ اللفظية للمُعلم، ألفاظُ المُعلم، البيئةَ الدراسيةَ، النشاطات، الإيحاءات الداخلية للطالب)؛ فإنَّها جميعاً تبني نظرة الطلبة تجاه أنفسهم، وتؤثّر على بناء انطباعهم عن شخصياتهم وإمكاناتهم.

الإيحاء وتأثيره:

إنَّ لمعتقدات الطَّلَبَة حول أنفسهم طاقةٌ هائلةٌ في تحديد ما إذا كان بإمكانهم تحقيق هدفٍ ما أم لا. وهي حقيقةٌ أصبحت اليومَ مقبولةً ومتداولةً في الأوساط العلميّة والتربويّة والنفسيّة؛ نتيجة عدّة دراساتٍ وأبحاث في هذا المجال، فنحن اليومَ قادرون على التنبؤ بما سيكونُ عَليهِ سُلوكُ الطلبةِ تجاهَ المُشكلات الصَعبة؛ فإمَّا سكون خيارهم هو المُواجَهة، أو تَجنبها والخوض في منطقة راحَتهم.

كما يُمكِننا من خلال أثر الإيحاءات تَوقُع ما إذا كانَ الطالبُ سيختارُ المخاطرَةَ باقتناصِ الفرصِ، أو تَفويتها وإضاعَتها، أو الاعتراف بالأخطاء وقبولها كتجربة تعلّم أو إنكارها وإلقاء اللّوم على الآخرين.

الإيحاء وتأثيره

في دراسةٍ استغرقت أكثر من عشر سنواتٍ قامت بها عالمة النفس بجامعة ستانفورد كارول دويك وزملاؤها، حول تأثير معتقداتنا اللاواعية على كيفية تحقيقنا للنجاح، وما لها من آثار عميقة على خَياراتِنا وسُلوكياتنا، وقدرتنا على تحقيق أهدافنا؛ وجدوا أنَّ بعض الناس لديهم ما يسمى بالعقلية الثابتة (وهُم أشخاصٌ يعتقدونَ بأنَّ ذكاءهم ومواهبهم صفاتٌ ثابتةٌ ومحسومةٌ بشكلٍ نهائي)، في حين أنَّ البعض الآخر لديهم ما يسمى بعقلية النمو (وهُم أشخاصٌ لديهم الاعتقاد بأنَّ القدرات والمواهب يمكن تنميتها من خلال الجَهد والتدريب، وبالتالي بإمكانهم أنْ يُصبحوا أكثر ذكاءً وموهبةً خلال مراحل حياتهم).

تتنبأ كلّ عقليّةٍ بكيفيّة تحقيق أصحابها للنجاح في المدرسة أو العمل أو حياتهم العائلية وعلاقاتهم الشخصية.

المثير للانتباه في هذه الدراسة التي تُعدّ من الدراسات الطويلة، بأنَّ الباحثين اعتمدوا على قوّة الإيحاء في تغيير سلوك الطلبة (عينة الاختبار) في الدراسة، حيث أَخضع الباحثون المئات من الطلاب المراهقين لاختبارٍ يتكوّن من عشرةِ أسئلةٍ تَهدِفُ إلى تقييم القدرة غير الشفهية لديهم، فكانت النتيجة أنَّ معظمهم أظهروا أداءً جيّداً في الاختبار.

ليقوم الباحثون بعدئذٍ بتقسيم الطلبة عشوائياً إلى مجموعتين، حيث أشاد الباحثون بطلبة المجموعة الأولى بسبب قدراتهم "العقلية الثابتة"، قائلين: "رائع، لقد أبليتم بلاءً حسناً في تلك المسائل، وأجبتم على (س) من الأسئلة بشكلٍ صحيح، وهذه درجةٌ جيّدةٌ حقاً، لابدّ أنَّكم بارعون في حلّ تلك المسائل).

بالمقابل أشاد الباحثون بطلاب المجموعة الثانية على جهودهم، مؤكّدين "عقلية النمو" وقالوا: "رائع، لقد أجبتم على (س) من الأسئلة بشكلٍ صحيح، وهذه درجةٌ جيّدةٌ حقاً، لابد أنّكم عَملتم جاهدين من أجلِ حَلّ تلكَ المسائل).

في الجزء التالي من الدراسة، أراد الباحثون قياس مدى تأثير الإيحاء على الطلبة (عينة الاختبار)، وتركوا لهم حريّة الاختيار مع مَهمّةٍ سهلةٍ، وأخرى صَعبة، فكانت النتيجة أنْ اختارت نسبة 80% من الطلاب الذين جرى الإشادة بذكائهم (العقلية الثابتة) المَهمّة السهلة، بينما اختارت نسبة 67% من الطلبة الذين تمت الإشادة بمجهودهم (عقليّة النموّ) المَهمة الصّعبة.

وكجزءٍ من الدراسة، ولتأكيد الهدف منها، طلب الباحثون من الطلبة كِتابَةَ رسالةٍ شخصيةٍ موجهة إلى أقرانهم، لمناقشةِ تجربتهم مع البحث وكَشفِ نتائجهم في الاختبار الذي حصلوا عليه في الدراسة.

المثير للاهتمام هو أنَّ نسبة 40% من الطلبة الذين قيل لهم أنّهم أذكياء جداً، كَذبوا وبالغوا في النتائج التي حصلوا عليها، بالمقارنة مع نسبة 13% فقط من الطلبة الذين تم الإطراء على جهودهم التي بذلوها.

تقول العالمة كارول دويك: "يبدو أنَّ طلاب العقلية الثابتة كانوا منهمكين في إثباتِ أنَّهم أذكياء؛ ليس لأنفسهم فقط، ولكنَّ للآخرين أيضاً، حتى لو كان عنى ذلك تضخيم نتائجهم".

ما خلصت له هذه الدراسة هو أنَّ الطلبة يتفاعلون إِزاءَ الايحاءات بصورةٍ تؤثّرُ في أدائهم الأكاديمي، فالطلبة الذين تمّ الإيحاء لهم بأنّهم أذكياء، قد صدقوا ذلك وقاموا بإقناع أنفسهم والآخرين بذلك، وبالتالي تعاملوا مع خيار اختيار مهمّة صعبة أو سهلة بذكاء، حيث اختاروا الطريق الأسهل، والذي قد يراه البعض أمراً جيداً ولكنَّه على المدى البعيد قد لا يساعد دائماً على تحقيق نجاحات حقيقية.

أَمّا بالنسبة للمجموعة الثانية التي أُشيدَ بجهودها، فقد تقبلوا فكرة أنَّ نتائج الاختبار هي نتيجة جهودهم، وبالتالي كانوا أكثر استعداداً وقبولاً لبَذلِ جَهدٍ أكبرَ في التعامل مع المَهمة الصّعبة، وهو ما خلق لديهم فكرة تقبل الوقوع في الخطأ، والاستعداد لخوض التجارب الجديدة دون انتظار النتائج؛ حيث أنَّ المُهم هو ملاحظة جَهدهم وتقديره، أكثر من مُلاحظة درجاتهم وتقديرها.

كيف لذلك أَن يُساعدني؟

يقول دي بورتر: "لا يهتمّ الطلاب بما تَعرف، حتى يَعرفوا بأنَّك مهتم"، بمعنى: إن كان اهتمامُكَ عزيزي المُعلم منصبّاً نحو الطلبة المتميزين الذين يحققون درجاتٍ استثنائيةٍ في الاختبارات، وأهملت الطلبةَ الذينَ لا يُحققون نتائِجَ مرضيةٍ في الاختبارات، مع تجاهُلٍ مُتعَمّدٍ للجَهد الذي يبذلونَهُ في التّعلم، فلا تتوقع الشيءَ الكثير منهم؟

اقتراحاتٍ للبدء بالتغيير:

  1. راجع نَفسَك ومُعتقداتك والصورةَ الذهنيةَ التي تمتلكها عن الطلبة ذوي الأداء المتمَيز، هل تُحاول فَرضَ هذِهِ الصورةَ عليهم من خلال الإيحاءات التي تُرسلها إليهم؟
  2. ابدأ بِرفع درجة وعيكَ تجاه الإيحاءات -اللّفظية وغير اللّفظية- التي تُقدمها للطلبة، وقيِّمها من خلال أَنْ تَسأَلَ نفسك:
    1. كيف لهذه العبارات أَنْ تُساعد طلبتي على رفع دافعيتهم للتَعلم؟
    2. كيف لها أَنْ تُعزز مِنْ ثِقَتهم بأنفسهم ومهاراتهم وقدراتهم؟
  3. لاحظ كيفَ يَتصرف الطلبة إِزاء الصُعوبات التي يواجهونها مع الاختبارات أو الواجبات المدرسية.
  4. حَدّد الدَورَالذي يُمكنك أَنْ تَلعبه في تَحويل تفكيرهم من التركيز على المشكلة، إلى ما يمكنهم القيام به من حلول محتملة.
  5. أوجد طريقة تُساعدهم فيها على التحلي بالمرونةِ وتَقبّل التغيير، واتخاذ قرارات عقلانية تساعدهم على تحقيق نتائج إيجابية. يمكنك على سبيل المثال، أَنْ تُجربَ إعطاءَ الطلبة الدرجَةَ النّهائية في بداية الفَصل في سجل الدرجات، وتَخْتَبر كيف لهذا الإيحاء أَنْ يُساعدهم في بَذْلِ الجَهد الّلازم للحِفاظ على هذه النتيجة.
  6. اكتب في بِدايةِ العام الدراسي مَجموعة عباراتٍ تحمل إيحاءً إيجابيّاً -بشرط أَنْ تكون نابعةً من القلب ومن إيمانٍ عميقٍ بِهم- وألقها على مسامِعهم في مناسباتٍ مُختلفة، وتَلمّس الأَثَرَ الذي تترُكه في نفوسهم، ولاحظ التّغير في سلوكياتهم.
  7. ناقش معهم كيفَ ينظرون إلى أنفسهم حينما يفشلون في حلّ مسألةٍ ما، أو الإجابة عن سؤالٍ في الاختبار؛ فلهذه النقاشات أَثرٌ عَظيمٌ في لفت انتباه الطلبة إلى أَنَّ ما يَمرون بِهِ هو أمرٌ طبيعي، وجزءٌ منْ عَملية التّعلّم، وأَنَّ تَقبّله هو أمرٌ صحيّ يُساعدهم على التحلّي بالمرونةِ والانفتاحِ لتَخَطي هذهِ العقبات الصغيرة.

إِنَّ التَعلم في فلسفتِهِ، يُؤسس للبُعد الإنساني لِمهنةِ التعليم؛ فإذا عُدت إلى مَبادئ التّعلّم السريع على سبيل المثال، تجد أَنَّ أَولَ مَبدأ فيه هو: "وجوب عدم الإيحاء بِفكرَةِ أَنَّ المتعلّم مَحدودُ القُدرات، واستبدال هذِهِ الحواجِزَ بإيحاءٍ قوي وإيجابي، يُشير إلى أنَّ عملية التّعلم سهلة ومسلية وممتعة في آنٍ معاً".

إِنَّ من أَهم الحقوق الإنسانية للمُتعلّم على مرِّ العُصور، أَنْ يَعيش ويَتعلّم في بيئةٍ تُشجع نُموَهُ وتُؤكدُ على أَنَّ قُدراتِهِ العَقليةِ لا محدودة، مما يُعطيه الفُرصَةَ لخوضِ التّجارب والتَعلم مِنها، وتَقَبُل أَخطائِهِ وآرائِهِ؛ أي وبكل بساطةٍ: أَنْ يَعيش المُتعلّم تَجربة "ليس بعد".

 

المصدر: المقال منشور في موقع النجاح نت للمدربة سمية الشمري.