كنَّا قد تحدثنا في الجزء الأول من سلسلة مقالاتنا هذه عن نموذج الصف المقلوب ونشأته، وسنكمل في هذا الجزء الحديثَ عن الأسباب التي تجعله الحل الأمثل.

الأسباب التي سنعرضها هنا ليست إلَّا نتائج حصدها معلمون طبقوا نموذج الصف المقلوب داخل صفوفهم، ولمسوا التغير الصحيح الذي كانوا يطمحون إليه في حياتهم كمعلمين، وفي حياة طلابهم.

إليك هذه الأسباب:

1. يتبنى لغة طالب اليوم:

نشأ هذا الجيل من الطلبة في عصر الإنترنت والمنصات الرقمية والاجتماعية المختلفة، وقد استخدم بذكاء الموارد هذه في حل الواجبات بالتعاون مع زملائهم وتبادل الحلول عبرها، خاصة أنَّهم يفهمون التعلم الرقمي بصورةٍ أسرع من الأجيال التي سبقتهم.

على أيّ حال، إنَّ القناعة التي يتبناها الصف المقلوب هي أنَّه على التعليم أن يقود إلى التكنولوجيا، وليس العكس.

2. يساعد الطلبة المنشغلين بالهوايات والأنشطة المتنوعة على فهم الدروس:

يتسم الصف المقلوب بالمرونة التي يقدِّرها الطلبة لأنَّها تريحهم، إذ لم يعد هناك خوف من تفويت الحصص الدراسية مقابل التواجد للمشاركة في إحدى المسابقات الرياضية أو الفنية أو الأدبية؛ بل على العكس، فقد تعلم الطلبة دروساً حياتية قيمة وذات جدوى في إدارة الوقت، ولم يعد الخيار إمَّا هذا أو ذاك، بل أصبح الخيار مفتوحاً لمتابعة الدروس جنباً إلى جنب مع الأنشطة الطلابية.

3. يساعد الطلبة ذوي التحصيل الدراسي الضعيف:

حين تدخل صفاً يطبق النموذج التقليدي في التعليم، ستجد نوعين من الطلبة:

  • عددٌ قليلٌ من الطلبة يتفاعلون في الصف بالإصغاء إلى المعلم بإيجابية، ويشاركون، ويطرحون الأسئلة، ويقدمون الإجابات عن الاستفسارات التي يطرحها المعلم.
  • بينما يقبع معظم الطلبة في مقاعدهم وهم يتفاعلون سلباً مع المعلم وزملائهم المتلهفين إلى المعرفة.

ولكن، لم يعد المعلم في الصف المقلوب يصب اهتمامه على الطلبة المتفوقين فحسب، بل هو في تجوالٍ مستمرٍّ حول جميع الطلبة ليقدم الدعم والمساعدة لأولئك الذين يحتاجونها.

4. يساعد الطلبة على التميُّز بغض النظر عن اختلاف قدراتهم:

لاحظ المعلمون في صفوف "التربية الخاصة" أنَّ الطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة أصبح بإمكانهم مشاهدة الفيديوهات عدة مرات كلَّما أحسوا بالحاجة إلى تعلم المادة وفهمها، واختفى تماماً ذلك الاندفاع المحموم لنسخ الملاحظات المتعلقة بالشرح على أمل قراءتها لاحقاً في المنزل وفهمها كما كان يحدث في التعلم التقليدي.

فوفقاً لوالديهم، أصبحوا الآن يؤدون دروسهم بصورة أفضل؛ وذلك بسبب قدرة المعلم على العمل معهم بشكل فردي، ودعمهم لتحقيق أهداف التعلم والتكليفات التي يعانون صعوبة في تحقيقها.

5. يسمح للطلبة أن يتوقفوا ويعيدوا تشغيل الدروس متى شاؤوا:

"إنَّني أستطيع إيقافك متى ما شئت"، هذا ما صاحت به مندهشة إحدى الطالبات عندما اطلعت للمرة الأولى على مقاطع الفيديو.

قد لا تتناسب حركة المعلمين بدرجة سرعتها مع مستوى استيعاب جميع الطلبة، لذا يتيح الصف المقلوب الفرصة للطلبة لتشغيل الفيديوهات بالسرعة التي تناسبهم، وتناسب مستوى استيعابهم؛ وذلك عن طريق استخدام زر الإيقاف المؤقت وإعادة التشغيل.

وعلى المقلب الآخر، يستمتع طلبة آخرون بمشاهدة الفيديوهات نفسها ولكن بسرعة مضاعفة، فهم قادرون على الاستماع إلى الشرح بسرعة أعلى من أقرانهم، ويجدون في ذلك استثماراً أفضل لأوقاتهم بدلاً من مشاعر الملل والضجر التي تنتابهم عند الاستماع مباشرة إلى الشرح من المعلم في النموذج التقليدي.

6. يوطد التفاعل بين الطالب والمعلم:

لا يروج الصف المقلوب للتعلم عن طريق الإنترنت، بل على العكس؛ فهو يمنح المعلم الفرصة لكي يعلِّم باستخدام الأدوات التكنولوجية المتاحة على الإنترنت، ويبقي في الوقت ذاته على التفاعل بين المعلم والطلبة.

بينما يقضي الطلبة الوقت في الاستفادة من الإمكانات التكنولوجية في المنزل، يُمنَح المعلم مزيداً من الوقت للتفاعل والتواصل مع الطلبة؛ فيؤدي بذلك دوراً فاعلاً في حياة طلابه الذين يكتسبون خبرة لا تُقدَّر بثمن بالتفاعل المباشر مع معلميهم.

7. يسمح للمعلمين أن يعرفوا طلابهم معرفة أفضل:

يعلم المعلم أنَّ ما يقوم به كل يوم في المدرسة ليس بالأمر السهل؛ فهو يلهم طلابه ويشجعهم، وذلك من خلال الإصغاء إليهم، وتقديم ما يحتاجون إليه لتوضيح رؤيتهم للمستقبل وجوانب القوة والضعف في مهاراتهم وأدائهم اليومي، وإظهار ما يميز شخصية كلٍّ منهم عن زملائه؛ وكل ذلك ضمن إطار يوطد العلاقة بين المعلم والطالب، ويقدم للطلبة نماذج إيجابية من الحياة لكبار لهم دور إيجابي مثمر في حياتهم.

عندما تسمح للطلبة بالتواصل معك عبر الرسائل النصية أو رسائل البريد الإلكتروني أو منصات التواصل الاجتماعي، فذلك يعزز التفاعل بينك وبين طلابك، خاصة وأنَّ محور التواصل مرتبط بالإجابة عن تساؤلات لها علاقة بالتعلم والتعليم؛ ولكنَّك ستجد مع الوقت أنَّ العلاقة أصبحت أقوى، وأنَّ الطلبة بدؤوا طلب المساعدة والإرشاد في جوانب حياتية أخرى يواجهون فيها تحديات.

8. يزيد من درجة التواصل بين الطالب والمعلم:

أعظم المنافع التي يقدمها نموذج الصف المقلوب هي زيادة التواصل بين المعلم والطالب؛ ذلك لأنَّ دور المعلم قد تغير من مقدم محتوى إلى مدرب على التعلم، وأصبح يقضي وقته في التحدث مع الطلبة، والإجابة عن أسئلتهم، وتقسيمهم إلى مجموعات صغيرة يمكنه العمل معها، وإرشادهم من خلال العمل مع كلّ طالبٍ على حدة؛ كما أتاح للمعلم ملاحظة الطلبة وهم يتفاعلون ويتواصلون مع بعضهم بعضاً، فأصبح بمقدور الطلبة أن يطوروا أنفسهم، وينموا مجموعاتهم الذاتية والتعاونية، ويساعدوا بعضهم بعضاً في التعلم بدلاً من الاعتماد على المعلم.

نجحت هذه الفصول في تنمية ثقافة التعلم لدى الطلبة، وذلك بتحويل التعلم إلى هدفٍ بدلاً من التركيز على إنجاز التكليفات والواجبات؛ حيث يُظهِر بذلك المعلم احترامه لطلابه وعقولهم، ويبادل الطلبة معلميهم الاحترام والتقدير لإعطائهم الفرصة لإبراز إمكاناتهم، ومشاركة أفكارهم، والتفاعل مع زملائهم.

اعلم بأنَّه عندما يكون هدفك جعل طلابك أفضل المتعلمين، ودعمهم لفهم حقيقي للمحتوى العلمي؛ سيفهم الطلبة أنَّك تقف إلى جانبهم، ويستجيبون لك بأداء أفضل.

9. يسمح بالتفرد الحقيقي للتعليم:

لقد قدَّم نموذج الصف المقلوب حلاً للطلبة في جميع مستوياتهم -سواء المتفوقين، أم متوسطي القدرات، أم ذوي الأداء المتدني- للوصول إلى المستوى المتميز في مدى القدرات التي يكتسبونها؛ ذلك لأنَّهم أدركوا أنَّ ما عليهم القيام به هو إثبات فهمهم المحتوى الذي قُدِّم وشُرِح ونُوقِش.

بالنسبة إلى الطلبة المتميزين في سرعة الفهم، يتجه المعلم إلى تقليل عدد المسائل التي يحتاجون إلى أدائها، بينما يركز على البحث عن مكامن وآليات الفهم الأساسية لدى الطلبة الذين يلاقون صعوبة أو متاعب في التحصيل أو الأداء؛ وذلك بتعديل أدائهم، أو طلب الإجابة عن المسائل والأفكار الرئيسة دون الغرق في مستنقع التفاصيل الإضافية التي قد تسبب لهم غموضاً أو ارتباكاً في فهمها.

مع اختلاف طرائق التعليم بين الطلبة، يجد المعلم التقليدي نفسه أمام تحدي تدريس 25 إلى 30 طالباً في الصف بالطريقة التي تناسب كلَّاً منهم، وهو الأمر الذي كان يعدُّ مستحيلاً؛ إلَّا أنَّه بالانتقال إلى الفصول المقلوبة، نجد أنَّها أتاحت للمتعلمين الكثير من الخيارات، ومنحت الحرية لكل طالب في تعجيل مستوى أدائه أو إبطائه حسب حاجته واستيعابه وفهمه لما يتلقاه من محتوى؛ كما تمكن المعلم من استغلال وقت الصف لمواجهة أسئلة الطلبة والمسائل التي يواجهون صعوبةً في فهمها وحلها، ممَّا انعكس بالإيجاب على أدائهم في الاختبارات الشفهية والتحريرية في نهاية الفصل، وعلى أدائهم التعليمي عموماً.

10. يغير من نمط إدارة الصف الدراسي:

يواجه المعلمون في النموذج التقليدي تحدياً مع بعض الطلبة الذين يتعمدون عدم الانتباه إلى الشرح، والذين يشكلون عامل تشتيت ذهني لبقية الفصل، ويتركون أثرهم السلبي على تعلم كل فرد في مجموعتهم؛ فهم غالباً ما يكونون ضجرين أو جامحين.

لقد أُصِيب هؤلاء المعلمون أنفسهم بالدهشة عند الانتقال إلى إدارة الصف المقلوب، إذ اختفى عدد من المشكلات الإدارية التي كانت تحدث في الفصل، ولم يعد لديهم طلاب يعشقون الظهور ويبحثون عن جمهور؛ نظراً إلى أنَّ وقت الفصل كان يُستخدَم أساساً من أجل الطلبة الذين يقومون بأنشطة يدوية، أو يعملون في مجموعات صغيرة؛ فتحول هؤلاء الطلبة إلى راغبين في الغوص في أعماق عملية التعلم.

لكن رغم ذلك، لا زال للمعلم دور في توجيه وإرشاد الطلبة الذين هم بحاجة إلى تحسين وتعديل وزيادة معدل أدائهم داخل الفصل.

11. هو طريقة للتواصل مع الوالدين:

يعلم كلُّ مُعَلّمٍ أنَّ اللقاءات مع الوالدين غالباً ما تركز على مدى جودة سلوك الأبناء داخل الصف؛ لذا تجدهم يجيبون عن أسئلة من قبيل: هل يجلس طفلي بهدوء؟ وهل يتصرف باحترام؟ وهل يرفع يده قبل التحدث؟ وهل يزعج المعلم أو زملاءه؟

ممَّا لا شك فيه أنَّ هذا الاهتمام من قبل الوالدين أمرٌ مُحبّبٌ وطيّب، ولكن لم تعد هناك حاجةٌ إلى طرح مثل هذه الأسئلة على المعلمين في نموذج الفصل المقلوب؛ ذلك لأنَّ الطلبة يأتون إلى الصف ولديهم تركيز على التعلم.

لقد تحولت أسئلة الأهالي إلى ما إذا كان ولدهم يحصل على التعلم الذي يريده؛ وإن لم يحصل ذلك، يقفزون تلقائياً إلى: "ما الذي يمكننا فعله لمساعدته على التعلم؟"، ويتحول اللقاء معهم ليصبح أكثر ثراء وقيمة للتركيز على مساعدة أبنائهم وفهم الكيفية التي يتعلمون بها ليصبحوا متعلمين أفضل.

يدرك الأهالي من خلال النقاش أنَّ الأسباب قد تكون لها علاقة بالخلفية العلمية المفتقدة منذ سنوات سابقة، أو بمسائل شخصية قد تعوق عملية التعلم وتتداخل معها، أو ربَّما قد يكون اهتمام الطالب بالأنشطة اللاصفية أكبر من اهتمامه بالتحصيل الدراسي؛ إلَّا أنَّه حالما يتمكن الأهالي والمعلم من تشخيص السبب، تصبح التدخلات العلاجية الضرورية قيد التنفيذ من قبل المعلم، وبدعم وشراكة من الأهالي.

12. يعلِّم الأهالي:

تفاجأ الكثير من معلمي الفصول المقلوبة بتعليق أولياء الأمور بأنَّهم أحبوا مقاطع الفيديو التي أُعِّدت لأبنائهم، وقد وجد المعلمون عند التحري أنَّ العديد منهم يشاهدون بصفةٍ مستمرةٍ هذه المقاطع مع أبنائهم، ويتعلّمون منها؛ ممَّا يقود إلى حوارات شيقة بين الأبناء وأولياء الأمور حول المادة المطروحة.

13. يجعل الصف أكثر شفافية:

لا يعلم المجتمع في عصرنا الحالي ما الذي يحصل داخل الصفوف، ولا كيف يتعلّم أبناؤنا؛ لكن، يفتح الصف المقلوب أبوابه، ويسمح للعامة بدخوله عن طريق إرسال مقاطع الفيديو المسجلة من قبل المعلمين أنفسهم إلى المنزل، فيُتاح لأولياء الأمور الوصول إليها ومشاهدتها، بدلاً من التساؤل عمَّا يتعرض إليه أبناؤهم في الفصول.

لقد ساعد هذا في رفع ثقة أولياء الأمور بجودة التعليم في المدارس التي تطبق نموذج الصف المقلوب، ممَّا ساهم في خفض احتمال انتقال الطلبة إلى مدارس أخرى؛ كما جذبت هذه المقاطع طلبة من مدارس أخرى، حيث بدأ أولياء الأمور ينظرون إليها على أنَّها ذات مستوى أكاديمي عالٍ.

14. يعدُّ تقنية رائعة بالنسبة إلى المعلمين المتغيبين عن المدرسة:

يصعب على المدارس في بعض المناطق التعاقد مع معلمي احتياط مؤهلين؛ لذلك ساهمت مقاطع الفيديو المسجلة مسبقاً من قبل المعلم في استمرار تعلم الطلبة حتى في الأوقات التي يصعب على المعلمين التواجد فيها في المدرسة، سواءً بداعي المرض أم المشاركة في مؤتمرٍ ما أم لأيّ أمرٍ طارئٍ كان.

لم يتوقف الطلبة بهذه الطريقة عن الإلمام بالمنهج ومتابعة المقرر رغم غياب المعلم عن الفصل، فقد استطاعوا الحصول على الدرس نفسه في اليوم المحدد دون التأثر بغياب المعلم؛ وبما أنَّ المعلم يسجل هذه المقاطع بالطريقة التي يختارها بنفسه، فإنَّه غير مجبرٍ على إعادة التدريس أو الشرح مرة أخرى عند عودته إلى المدرسة.

لقد حازت هذه التقنية على تقدير المعلمين؛ ذلك لأنَّه كان بمقدور الطلاب فهم واستيعاب ما أراد المعلم بالفعل أن يفهموه في حال وجوده بالفصل، وأصبحت شرائط الفيديو خططاً بديلة في حال غيابهم عن الفصل لأي أسباب أو ظروف يواجهونها.

15. يمكن أن يؤدي إلى برنامج إتقان التعلم:

تعدُّ هذه المرحلة التالية التي قادها "جوناثان" و"آرون" للتأكد من أنَّ الطلبة لا يحفظون المنهج بغية النجاح في الاختبارات فحسب.

جاءت فكرة مكتبة الفيديوهات لتوفير مقاطع فيديو لكل المفاهيم المتعلقة بالكيمياء عبر قناة يوتيوب، حيث يمكن للطلبة الوصول إليها ومشاهدتها جنباً إلى جنب مع المقاطع المخصصة للمنهج الحالي، وذلك بهدف إتقان المفاهيم الكيميائية واستيعاب المقرر بفهم عميق.

في الختام:

كانت هذه أهم نقاط الجزء الثاني من سلسلة مقالاتنا هذه، وستكون شروط نجاح نموذج الصف المقلوب والآليات المتبعة في ذلك محور الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة.

 

المصدر: المقال منشور في موقع النجاح نت للمدربة سمية الشمري.