تعرضنا في المقال السابق لفلسفة التعلم السريع ومبادئه وتوظيفه لأدوات الإيحاء والتخيل في جعل التعلم أكثر متعة وفاعلية؛ وذلك من خلال مساعدة المتعلمين على الانغماس في التعلم، وعرضنا الفرق بين الشرود الذهني والخيال، والرابط بين التعلُّم والذاكرة والخيال، وفي هذا المقال سنكمل حديثنا ونتعرف إلى نتاج التفاعل بين الخيال والمعرفة، وفوائد الخيال في التعلم، ومنهج التعلم التخيلي وأدواته.

المعرفة والخيال:

تدور المعرفة حول الحقائق والمعلومات، ويدور التعلم حول إعطاء المعنى للمعرفة، فيما يقوم الخيال بدعم المعرفة من خلال عملية تكوين أفكار جديدة أو مفاهيم جديدة لكل ما هو خارج حدود الحواس، ويساهم بذلك في الفهم العملي للمعرفة، ويشمل المهارات التي نكتسبها من خلال التجربة أو الخبرة.

أي إنَّ الخيال ينمو كلما نمت معارفنا، ويدفعنا للبحث عن معارف جديدة، ويبقينا في دورة الاكتشاف والتعلم، وهذا الاكتشاف يتطلب المخاطرة من المُعلم والمُتعلم كِليمها، فالمتعلم يضع مخاوفه جانباً ويُصرح بآرائه وأفكاره بدلاً من إعادة تقديم الإجابات الصحيحة للأسئلة التي يطرحها المُعلم في التعلم التقليدي، والمعلم يخاطر بطرح أسئلة تأخذ المتعلمين لفضاء الإبداع الذي لم يكتشفه بعد المتعلمون، واضعاً آراءه وأحكامه جانباً منفتحاً على لحظة التعلم الحقيقية التي يمر بها المتعلمون وطرائقهم في رؤية المشكلات والخروج بالحلول.

"الخيال من أسس النجاح" قاعدة وضرورة في منهج التعلم السريع، الذي ينادي بإحياء فطرة التعلم، فالخيال لا ينفصل عن المعرفة التي نتلقاها من خلال الحواس ولا عن الخبرة التي تنتج التعلم، إلا أنَّ مسار التعليم التقليدي المصمم لمجاراة العصر الصناعي يحيد بنا بعيداً عن فطرة التعلم بالتركيز على تقديم المعلومة وإعادة إنتاجها، وتقييم الإجابات الصحيحة بنظام الدرجات، ويتعمد تهميش دور الخيال في الإبداع وتقديم الحلول لمشكلات المجتمع الحالية وتخيل المستقبل، ومن ثمَّ فإنَّ التعليم التقليدي عاجز اليوم عن تقديم متعلمين قادرين على مواكبة النمو السريع في العديد من المجالات الضرورية لبناء المستقبل.

فوائد استخدام الخيال في التعلم:

تساهم ممارسة التخيل في التعلم في:

  1. تحويل المعرفة إلى تعلُّم.
  2. ترسيخ المفاهيم بصورة مناسبة، وبقائها في الذاكرة لفترة أطول.
  3. الوصول إلى الانتباه المركَّز ومن ثم تحسين وظائف المخ.
  4. استبعاد الملهيات (المرئية/ اللمسية/ الروائح، وما إلى ذلك) وتركيز موارد المتعلمين الذهنية على المهمة التي يقومون بها.
  5. تخفيف التوتر الناشئ عن التعامل مع المهام الصعبة أو في أثناء الاختبارات.
  6. الحفاظ على الذاكرة والخلايا العصبية الموجودة في منطقة الحصين [1].
  7. إفراز الدوبامين[2] بوصفه مكافأة للمتعلم؛ مما يمنحه الإحساس بالسعادة لإنجاز المهمة التي بين يديه.
  8. تدريب المتعلمين منذ الصغر على النشاطات التي تتضمن تركيزاً حقيقياً يرتبط لاحقاً بخفض خطر الإصابة بالخرف.

نهج الخيال في التعليم:

كتب كيران إيجان[3] في كتابه "النهج التخيلي في التدريس" "An Imaginative Approach to Teaching" أفكاره المتعلقة بتوظيف الخيال في عملية التعلم لدى الطلبة في الصفوف الدراسية، فقد عَرَّف التعلم التخيلي بأنَّه: "إشراك خيال المُتعلمين في التعلم والمُعلمين في التدريس؛ من خلال استخدام مجموعة من المبادئ والتقنيات تجعل التعليم أكثر فاعلية والمعرفة في المناهج الدراسية حية وذات مغزى".

"هدف المعلم في هذا المنهج هو تقديم موضوعه بطريقة تشغل عواطف وخيال المتعلمين، فيما يوظف منهج التعلم التخيلي الأدوات المعرفية - التي يطورها الأطفال خلال نموهم وتفاعلهم مع المجتمع - في تدريس المتعلمين بطريقة تولِّد أنواع مميزة من فهم العالم الخارجي والداخلي وخبراتهم الشخصية ومساعدتهم على الانخراط فيها.

يرى أنَّ هذه الأدوات تعمل على توسيع الحواس وتغييرها، ومن ثمَّ توسيع فهمهم لأنفسهم بطرائق أكثر تعقيداً؛ وذلك عبر دمج أدواتها كاللغة والقراءة والكتابة والتفكير المجرد النظري خلال تفاعلهم داخل العملية التعليمية.

يصنف "Kieran Egan" منهجه الأدوات المعرفية إلى مجموعات وفق نوع الفهم الذي تولده كل مجموعة، هي:

أولاً: مجموعة الأدوات الجسدية

أدوات صنع المعنى والتعلم في المنهج التخيلي وهي:

1. الحواس:

السمع والرؤية واللمس والشم والتذوق، والتي يتم تحفيزها في السنوات الأولى للطفل، فتساعده على تشكل فهمه الأولي للعالم الخارجي، وإدراك نطاق وحجم معين لظواهر البيئة الخارجية والتعامل معها.

2. المشاعر:

الأداة الأساسية لصنع المعنى، وهي تتطور لتوجِّه وتنظم إدراك الطفل للعالم، لأنَّ الطريقة التي نستجيب بها للمؤثرات الخارجية في البيئة تعتمد على مشاعرنا؛ أي إنَّ الطريقة التي نفسر بها الأحداث بشكل نقدي ستعتمد دائماً على مشاعرنا التي هي مجموعة من الاستجابات تشكلت وفقاً لنظرتنا للأحداث، وهنا لا يمكن فصل الإدراك المعرفي عن المشاعر التي تقود الاستجابة السلوكية للمتعلمين.

3. الأنماط والإيقاع:

نحن كائنات يشكل النمط والإيقاع سمة مركزية في أجسادنا، ويستند إيجان في قناعته هذه إلى رأي ستيفن ميثين"Steven Mithen" في كتابه "غناء إنسان نياندرتال""The Singing Neanderthals: The Origins of Music, Language, Mind and Body" الذي يقدم في كتابه افتراضه بأنَّنا بصفتنا بشراً تطورنا في البحث عن المعنى من خلال الأنماط التي تغذينا بها حواسنا.

4. حس الفكاهة:

يستند في الأصل إلى التنافر ويعكس قدرتنا بصفتنا بشراً على التعامل بسهولة ومتعة مع التناقض في التجربة بشكل يساهم في إثرائها ومرونة أدمغتنا، وهو الأمر الحاسم والحيوي في التعلم وللمُتعلم، الذي ينغمس ببهجة في التعلم بصورة تساهم في إبراز تفكيره المرن والخيالي والمبدع.

ثانياً: مجموعة أدوات اللغة

تأتي مع اللغة الشفهية وتساعد المتعلمين على تعلم محتوى المنهج، وإشراك خياله في تعلم المناهج العلمية كالرياضيات والعلوم وكذلك العلوم الإنسانية كالشعر والدراما، ومنها:

1. القصة:

رواية أحداث تثبت توجهنا العاطفي للعناصر التي تتكون منها، فنحن ننسب المعنى العاطفي للأحداث، والناس، ولحياتنا، من خلال تآزرها مع تجاربنا الشخصية، وتعد القصة أهم اختراع اجتماعي ساهم في توجيه مشاعر المستمعين نحو محتوياتها، وساعدتهم على فهم تجربتهم الشخصية وقيادة عواطفهم خلال تسلسل الأحداث المتضمنة في القصة، ويؤكد إيجان: "نحن كائنات نفهم بُعداً هاماً لتجربتنا وعالمنا في أشكال القصة".

2. الأضداد الثنائية:

شكل من أشكال تطور تشكيل المعنى وصنعه لدى البشر قبل تطور اللغة، فالحكايات الخيالية بُنِيَت بشكل أساسي على قمة التناقضات بشكل قوي ومتطرف ومجرد، مثل الأمان والقلق، والسرور والألم، والتوقع والرضى، والسعادة والحزن، فالطفل يتعلم التوسط بين هذه الأضداد وتنظيم عالمه الداخلي من خلال تصنيف الأشياء إلى أضداد.

3. النكتة:

تعتمد اعتماداً كبيراً على التنافر، وتأتي من خلال التعرف إلى المعاني المختلفة لنفس الكلمات في سياقات خاصة، فعلى سبيل المثال من اللؤم ضرب الأولاد، إلا أنَّ الطاهي لا يُعد لئيماً حين يضرب البيض، وتعد النكتة تطوراً لغوياً في فهم ما وراء المعرفة، وهي أمر حاسم في نظر إيجان لتطوير استخدام اللغة بشكل مرن وخلاق.

4. الصور:

تعد القدرة على استدعاء صور دقيقة وغنية ميزة فريدة لأدمغتنا، وهي مرتبطة بشكل واضح بتطور الخيال، وتعدُّ الصور المتاحة لأذهاننا محدودة في سنواتنا الأولى، إلا أنَّ اكتساب اللغة يُثريها بشكل كبير، والاستماع للقصص يساعد على تطوير قدرتنا على تكوين الصور في أذهاننا.

هنا يؤكد إيجان: على المُعلم عند التخطيط للدرس، ألا يتعمق في المفاهيم الهامة فقط، بل عليه أن يعطي على الأقل وقتاً متساوياً للمتعلم للتفكير في الصور التي تشكل جزءاً من هذه المفاهيم.

5. الألغاز والأحاجي:

أداة هامة في تطوير تفاعل المتعلمين مع المعرفة التي تتجاوز البيئة اليومية لهم، فتعزِّز إحساساً جاذباً بروعة الاكتشاف؛ فإذا تمعَّن المُعلم في مواد المنهاج، سيجد أنَّه يحتوي ألغازاً بطبيعته، وعمله الأساسي هو إثراء فهم المتعلمين وتعميقه من خلال جذب عقولهم إلى مغامرة اكتشاف هذه الأحاجي والألغاز.

ثالثاً: مجموعة أدوات القراءة والكتابة

الأدوات التي يتعلمها الأطفال بمجرد انخراطهم في التعليم النظامي، تقدم هذه الأدوات لأدمغتهم النامية نوعاً جديداً من المفهوم عن الواقع، وتنمِّي لديهم مع الوقت ما يعرف بالمعنى الإنساني، فهو أداة تمكنهم من رؤية ما وراء سطح أي معرفة إلى الكشف عن جذورها في حياة الإنسان، ويرى إيجان أنَّ هذه الأدوات تجعل المعرفة قابلة للتذكر، وتمنحها في الوقت ذاته المعنى من خلال هذا السياق، ومنها:

1. أقصى حدود الواقع:

تمكن المتعلمين من معرفة الواقع وأقصى حدوده والغريب وغير المألوف والرائع فيه، فحين يبدأ المعلم موضوع الدرس بمعلومة خارج خبرات المتعلمين اليومية، سيثير فضولهم وحماستهم لاكتشاف حدود جديدة للواقع، تمنحهم فهماً للمعايير والمقاييس المعقولة والمقبولة، فهي تخبرهم عن ذواتهم بصورة أخرى.

2. الارتباط بالبطولات:

تسهم البطولات في فتح آفاق قدرة المتعلمين على التغلب على التحديات والتهديدات عند الوضع في الحسبان أنَّ الأبطال هم بشر بصفات إنسانية تمكنوا من خلال سماتهم الشخصية من سطر أسمائهم في التاريخ، فما هو ممكن للأبطال يصبح ممكناً للمتعلمين، فيكتسبون الثقة في التعامل مع الواقع وتحدياته.

3. تراكم التفاصيل:

وهي الباب الذي يدخل منه الشباب إلى دراسة الموضوعات أو ممارسة النشاطات المفيدة المرتبطة بالواقع، بوصفه وسيلة للانتقال من الطفولة واهتماماتها إلى الاستفادة من المجال المعرفي الذي يقع خلف الموضوعات العلمية والإنسانية والهوايات المختلفة في عالم الكبار.

4. المعرفة الإنسانية:

يرى إيجان أنَّ "الإنترنت والمكتبات مليئة بالرموز وليس المعرفة"، والمتعلمين قادرين على إعادة بناء الرموز إلى معرفة بالتمكن من أدوات القراءة والكتابة، فالمعرفة مشتقة من الآمال والمخاوف والعواطف البشرية؛ وعلى المتعلمين رؤيتها في سياق الآمال والمخاوف والعواطف البشرية التي ولَّدتها في المقام الأول.

[1]  hippocampus تَغضُّن صغير في الدماغ، يستقر أسفل كلٍّ من الفصين الصدغيين. ويؤدي دوراً مهمًّا في تكوين الذكريات؛ إذ يأخذ خبراتنا وتفاعلاتنا، واضعاً إياها فيما يشبه القالب، عبر صنع روابط جديدة بين الخلايا العصبية

[2] ويعرف باسم هرمون السعادة، وهو مادّة عضوية تُفرَز في جسم الإنسان، وتلعب دور هرمون وناقل عصبي، ولها تأثيرات عديدة على الدماغ بشكلٍ خاصّ، وعلى جسم الإنسان بشكلٍ عامّ. يلعب دوراً محورياً أساسياً في العامل التحفيزي في نظام المكافأة في الدماغ، إذ أنّ توقّع المكافآت يزيد من مستويات الدوبامين في الدماغ.

[3] Kieran Egan مهتم بالتعليم ويركز عمله على تقديم نظرية تعليمية جديدة ودراسة آثارها على المناهج وممارسات التدريس والمدرسة. يقدم في موقعه معلومات عن كتبه ومقالاته للمهتمين بهذه النظرية بالإضافة إلى روابط إلى المشاريع والبرامج التي تم تطويرها من الأفكار الموجودة في الكتب في موقعه، منها مجموعة أبحاث التعليم التخيلي، التعلم بعمق، برنامج تعليم القراءة والكتابة التخيلي، مشروع المدرسة بالكامل، وغيرها.