هل سبق وأنْ قام طفلٌ في الثالثةِ أو الرابعةِ من العمر بِعرضِ رَسمِهِ الطفولي وخربشاتِهِ عليكَ بكلّ فخرٍ وسعادة؟ هل لاحظتَ أنَّه لا يشعر أَبداً بالخجلِ من عرضِ تُحفتِهِ الفنيةِ للجميع، والحديثِ عَنها وعن تفاصيلها؟

لاحَظَ المختصون والتربويون بأنَّ الأطفال الذين يَشعرون بالأَمانِ، أو يتعلّمونَ في بيئةٍ آمنة، يكونون أكثَرَ مَيلاً للشعورِ بالحريةِ الكاملةِ في اللعب والتعبير عن أنفُسِهم. قُيود التعبيرِ عن الذاتِ وقيود الشعورِ بالحريةِ، هو ما يواجٍهُهُ الأطفالُ المتعثرون في القراءة؛ حرجاً من القراءة أمام الآخرين، وخوفاً من حُكم أَقرانِهم أو مُعلميهم عَليهم؛ مِما يؤدي إلى شعورهم بالتوترِ والقلقِ والانطواء أَثناءَ اللَّعب أو خِلال الحِصَص الدراسيّة. وعليه، يتَأخّر اكتِسابهم لِمهارات القراءةِ، ويواجهون صعوبةً في التواصلِ مع الآخرين في مراحلَ عمريةٍ صغيرة. وقد تمتد المشكلة لتصل إلى مشكلاتٍ أكبر تُسبّب تقييدَ التفكير، ومحدوديةَ الإبداعَ في العمل والإنتاج؛ مما يُحتّم علينا تدارُكَ الأمرِ وتقديمَ الحُلول.

سنعرض في هذه المقالة تجربةً فريدةً من فنلندا، لمساعدةِ الأطفالِ المتعثرين في مهارات القراءةِ والكتابةِ، ثم نبين إليك عزيزي القارئ كيف لهذه التجربة، أن ترتبطَ بفلسفةِ وروح التَّعلم السريع، وكيف لهذه المبادئ أن تُساعد المتعلّمين داخل الصفوف على الانفتاح على عملية التَّعلم والتعليم.

كِلابُ القِراءَةِ من فنلندا:

في أقصى شمال أوروبا، وبالتحديد في فنلندا، تأتي "ماريت هاباساري" وهي المؤسس لشركة (Reading Dog كلاب القراءة)، بفكرةٍ رائعةٍ واستثنائيةٍ لمُساعدة الأطفال المُتعثرين في القراءة.

تقوم هاباساري بتدريب الكلاب (بالذات كلاب جبال البيريز) على الاستماع للأطفال وهم يقرؤون، وذلك خلال فتراتٍ زمنيةٍ تتراوح بين 5 دقائق إلى 15 دقيقة للأطفال الأكثرَ قُدرةً على القراءة.

تقول هاباساري عن هذه التجربة: "الكلاب تستمع باهتمامٍ للأطفال، فهي لا تهتم إنْ كانَ الطفل يُخطِئ في القراءة أو يقرأ ببطء. إنَّ هدف تجربة "القراءة للكلاب" تشجيع الأطفال –خاصةً من يعانون من صعوباتٍ في القراءة– على أن يقرؤوا بصوتٍ عالٍ في أجواءٍ تتّسم بالخصوصيةِ والحميميةِ، حيث لا يكون معهم في البيئةِ التعليميةِ سوى الكلبُ والمعالِج، ممَّا يساعد الطفلَ على الاسترخاء، والتخلّص من التوتر والقلق -عدوّ التَّعلم الأول- ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة قدرته على التركيز".

يُظهر الأطفال المنتسبين لهذا البرنامج شعوراً بالإنجاز الذي يعزز في ذواتهم تقدير الذات، ويشجعهم مستقبلاً على اختيار الكتب وقراءتها.

وفي بلدةٍ أخرى، قام "هايدي بوبوتي" (معلّمٌ لذوي الاحتياجات الخاصة) في إحدى المدارس الفنلنديّة بتطبيق هذه التجربة على طلابه، حيثُ يقولُ تعقيباً عليها: "يكون بعض الأطفال مفرطي النشاط داخل الصفوف الدراسية، ولكنَّهم يهدؤون بمجرد القراءة للكلب. إنَّهم يدركون بأنَّهم المسيطرون على الوضع، وأنَّ عليهم الأخذ بعين الاعتبار احتياجات المستمع، فيتعلمون أنْ يكونوا متعاطفين ومتفاعلين، ويبدؤون القراءة بهدوءٍ وعناية، فتجد أنَّهم يقرؤون بشكلٍ جيّدٍ تماماً في نهاية الأمر".

القراءة والطفل

للتعامل مع الحيوانات فوائد عديدة على شخصية الأطفال، إضافة الى أنَّه ينمي الذكاء عندهم؛ إلا أنَّ هناك نقطةٌ ضروريةٌ لا بد من الوقوف عِندها: وهي أنَّ الطفلَ قد يشعُر بالخوفِ من التعامل مع الكلاب، وعلى المعالج أنْ يُدرك هذا الأمر، فيَمنَح الطفلَ الحريّةَ الكاملة في تحديد المسافة بينَهُ وبين الكلب، والتي تشعره بالاسترخاء، مما يساعده في الوقت ذاتِهِ في التغلبِ على خوفِهِ من الكلاب.

لقد قامت هاباساري بالتعاون مع الأخصائيّة في الكتابة الإبداعية "فيرا فاهاما"، بتطوير هذه الفكرة إلى مرحلةٍ أعلى، وهي مرحلةُ "كتابة القصص للكلب ثم قراءتها" حيث يقومُ الأطفال بكتابة قصصهم الخاصة، ثم يقرؤونها بصوتٍ عالٍ للكلب.

شَجَّع نجاحَ هذه التجارب والمبادرات التي لا تنتمي للمناهج الفنلندية الرسمية، العديد من دول شمال أوروبا وأمريكا على تطبيق هذه الفكرة، وتدريب الكلاب على الاستماع للأطفال الذين يقرؤون لهم بصوتٍ عالٍ.

رُوح التَّعلم السريع:

نستطيع الآن أنْ نقول بأنَّ هذه الطريقة في التعليم، من شأنها أنْ تكون حلّاً ناجعاً لمشاكل وصعوباتٍ تعليميةٍ عديدة، وإنَّ الناظر إلى هذه التجربة يُدرك حقيقةَ أنَّ هاباساري قامت بعلاج عددٍ من الأمراض المرتبطة بالتعليم لدى هؤلاء الأطفال، نذكر منها:

  • الخوف والتوتر وطريقة عَمل الدماغ التي تعتمد بالدرجة الأولى على الاسترخاء، وهي الحالة التي يكون فيها الدماغ أكثر فاعليةً وابداعاً، على عكس ما يحدث عند الوقوع في القلق والتوتر.
  • إزالة الأحكام المسبقة عند الأطفال من الشعور بعدم الثقة عند القراءة، مما يمنعهم من الاختلاط بأقرانِهِم خوفاً من تعليقاتهم أو أحكامهم.
  • التخلّص من النمطية في معالجة تعثر مهارة القراءة التي لا تناسب جميع الأطفال، ولا جميع الاحتياجات، فالطفل في هذه التجربة هو محورها، ويتحكّم في كلّ أدواتها؛ فهو من يختار ماذا يقرأ، والفترة الزمنية التي يقضيها في القراءة، والمسافة بينه وبين الكلب، والقصة التي يرغب بكتابتها ومشاركتها للمستمع.
  • التلقين بلا حركة، فالأطفال هم من يختارون القصة والمكان، وهم من يكونون المسيطرين على الموقف أثناء القراءة، بعيداً عن الصفوف الدراسية المحدودة المساحة والأفق. كما أنَّ هذه التجربة تساعد الأطفال على ضبط انفعالاتهم بما يسهم في تلبية احتياجات المستمع.
  • إزالة المشاعر السلبية ناحية التعلّم، حيث شجّعت هذه الفكرة الأطفال على ممارسة القراءة، وفتحت لهم آفاق الخيال لكتابة القصص. كل ذلك يصب في بوتقة السعادة بالإنجاز الذي يشعر به الأطفال، وزيادة تقدير الذات من خلال كسر إطار التفكير والسماح بالأفكار الإبداعية أنْ تتدفق من عقولهم.

إنَّه لمن الجدير بالذكر أنَّ فنلندا تحتل المركز الأول في كلٍّ من مهارات القراءة والعلوم والرياضيات، في اختبارات PISA (البرنامج الدولي لتقييم الطلبة) في الفترة من عام 2000 وحتى عام 2005. ومازالت إلى الآن؛ تتصدّر قائمة أفضل خمس دولٍ في العالم في هذه المهارات.

ربما تتساءل عزيزي القاري عن السر وراء هذا التميّز الذي حصده طلبة فنلندا؟ هناك أسباب كثيرة، ولكنَّ الأهم هو أنَّ الفلسفة القائمة على التعليم في هذا البلد تنصُّ على أنَّ المدرسة، هي المكان الأنسب لكي يحدث فيه التعلم في قالبٍ من المرح والمتعة والشغف وإثارة الفضول لدى الأطفال.

كيف لذلك أن يساعدنا؟

من الجميل الاطّلاع على تجارب الآخرين فيما يخصّ التعليم، والبحث عن حلول مبتكرة للتحديات التي يواجهها المعلمون داخل الصف، والأجمل هو محاولة ابتكار وسائل وطرائق تتلاءم مع احتياجات الأطفال الذين يعانون من تعثّر في تعلّم المهارات الأساسية؛ كالكتابة والقراءة والحساب والعلوم؛ فنجاح أيّ دولةٍ مرتبط بنجاحها في التعليم.

ربما لا يرى القارئ إمكانية تطبيق هذه الطريقة بعينها في واقعنا العربي، إلا أنَّ هذه الخدمة متوفرةٌ في بعض الدول العربية، ونجاح هذه التجربة في فنلندا -التي تعد البلد الأول في مجال التعليم في العالم- وانتقالها إلى العديد من دول أوروبا، يعطي مؤشراً على أنَّ هذه الطريقة وطرقاً أخرى قد تنجح، إذا طُبِّقت مع الإيمان الكامل بإمكانيّة نجاح الأطفال في التغلّب على التحديات التي يواجهونها. كذلك الأمر مع فلسفة التعلم السريع، التي واجهت في بداياتها مخاوف من عدم نجاحها أو ملاءمتها لجميع الموضوعات التي تُقَدّم في المدارس.

إنَّ المعلمين والمختصين بتعليم الأطفال في فنلندا لديهم إيمانٌ صادقٌ بإمكانات الأطفال غير المحدودة، ويوقنون تماماً بقدرتهم على امتصاص المعرفة بشكلٍ أسرع، وسيكون الأمر أكثرَ فاعليّة إن قُدِّمت لهم الموضوعات في قالبٍ من المتعة والمرح، وذلك هو ما ساعد على نجاح التجربة الفنلندية في تطبيق هذه الفلسفة في التعلّم في مدارسها، فأصبحت نموذجاً يُحتذى به في كلّ دول العالم في مجال التّعليم.

قد تحتاج عزيزي القارئ لقضاء بعضَ الوقت في البحث والقراءة حول التجربة الفنلندية في التّعليم وفلسفتها الخاصّة، قبل قبول أو رفض ما ورد في هذه المقالة؛ فما كانَ مستحيلاً يوماً، اتضح بالتجربة أنَّه كانَ مجرد أمرٍ غير مألوفٍ، ليصبح مقبولاً ومتداولاً اليوم. لذا يصبح من المؤكد أنَّنا نحتاج إلى فهمٍ عميقٍ لفلسفة التعلم السريع، لكي ندرك أنَّها تتناغم مع فطرة التعلّم لدى البشر جميعاً.

 

المصدر: المقال منشور في موقع النجاح نت للمدربة سمية الشمري.