هل أنت الشخص نفسه الذي كنت عليه عندما ذهبت إلى المدرِسة لأول مرة منذ سنواتٍ عديدة؟ ابحث في الصور القديمة واسأل نفسك ذاك السؤال. علينا أن نعترف بأن هذا الجيل من طلاب المدارس يقدم للتعلم مجموعة من الميزات والخبرات مختلفة جداً عما قدمته الأجيال التي سبقته، وأن هذا وحده كافٍ لنشعر بأنه من واجبنا أن نعيد النظر باستمرار بما نعلِّم وبالطريقة المستخدمة في التعلم.

مفهوم العائلة في تغير مستمر:

قبل ثلاثين سنة، كانت نسبة الأطفال الذين يعيشون في عائلة متماسكة تبلغ 85%، أما اليوم فتبلغ هذه النسبة في الولايات المتحدة 70%، و64% من الأطفال فقط يعيشون مع عائلات متماسكة يعيشون مع أهلهم البيولوجيين (الحقيقيين)، ولقد تغير مفهوم العائلة، وبات الكثير من أشكال الحياة المشتركة خارج إطار العائلة التقليدية مقبول ومعترف به، حتى أن توزيع الأدوار داخل العائلة قد تغير بشكل كبير. لقد تغيَّر نموذج التوظيف متضمناً تبديل فرق العمل.
ومناوباتٍ أكثر، وعملٍ بنصف دوام، وأنماطاً متعددة من العمل الحر (العمل بأكثر من مكان للحصول على أجر العمل بدوام كامل)، كل ذلك وضع نهاية لما كان يسمى بالعمل مدى الحياة والمفهوم التقليدي للعائل الوحيد، وهكذا تغيَر مفهوم المجتمع أيضاً، فعلى المدارس أن تتكيّف في طريقة تفكيرها وعملها مع هذه التغيرات.

المتعة أصبحت أكثر فردية:

أصبح الكثير من النشاطات محصوراً في مكانين فقط، وكل منهما ليس في الجوار حيث اعتاد الأولاد أن يلعبوا. أحد هذين المكانين هو المنزل، والآخر هو أي مكانٍ عام للتسلية، كالمراكز الترفيهية مثل السينما والمسارح بالإضافة إلى المراكز التجارية. إننا اليوم نكِيف نشاطاتنا بحيث تناسب ما يفضله الأفراد وليس المجموعات، وتشتمل هذه النشاطات على الكثير من المشاركة غير المباشرة (أي أن نشاهد شخصاً يؤدي نشاطاً معيناً بدل القيام بهذا النشاط) بما أنه يوجد كمبيوتر في معظم المنازل يمكننا متابعة الرياضة ونحن جالسون مسترخون على الأريكة.

تحوي صفوفنا الكثير من "الناجين":

إن عدد الأطفال الذين يولدون قبل أوانهم في ازدياد وكذلك عدد الذين يبقون على قيد الحياة بعد الولادة، لقد ازدادت نسبة الولادة المبكرة إلى 29% بين عامي 1981 و2002، ورافق هذه الزيادة زيادةٌ مذهلة في نسبة من يبقى منهم على قيد الحياة. فيما يلي مجموعة من الإحصائيات حول هذا الموضوع: يبقى 40% من الأطفال الذين يولدون في الأسبوع الرابع والعشرين على قيد الحياة، وترتفع نسبة الأطفال الناجين المولودين في أسبوعهم الثامن والعشرين إلى 90%، ويصاحب هذا النجاح مشاكل في قلة الوزن عند الولادة وفي القدرة على التعلم، كما يترافق بمناعة قليلة ضد الأمراض، ومشاكل صحية طويلة الأمد. يساهم التقدم في برامج التلقيح في ازدياد عدد الأطفال الناجين وبالتالي ازديادهم في مدارسنا.

ليست صحتنا على ما كانت عليه في الماضي:

يتلقى الأولاد اليوم رسائل لا حصر لها تدعوهم إلى تناول الأطعمة المفيدة، حتى إن نقاشات علمية جدية تجرى الآن لمعرفة ما إذا كانت الوجبات السريعة تسبب الإدمان. في الحقيقة لم يكن معدل السمنة في الولايات المتحدة في هذا الارتفاع من قبل، حيث بلغت نسبة الأطفال والمراهقين الذين يعانون من السمنة 15% (يعتبر الشخص مصاباً بالسمنة إذا زاد وزنه على معدل الوزن الطبيعي بمقدار 10%)، يقدِّر الأطباء بأن المشاكل الناتجة عن هذا الداء ستكلف الدولة أكثر مما تكلفه أمراض أخرى كالأمراض المتعلقة بالتدخين وشرب الكحول، كما تبيِن الدراسات والأبحاث مراراً وتكراراً العلاقة ما بين النجاح الأكاديمي وبين الممارسة للتمارين الرياضية المستمرة.

طلابنا هم طيور العلم المهاجرة:

إن باستطاعة ذي الأربعة عشر ربيعاً من هذا الجيل من الأولاد القيام بعدة أعمال في الوقت نفسه، وإنجاز ما يتجاوز أحلام من سبقهم من أجيال. إن بإمكان أبنائك أو بناتك أن يشاركوا في عدة غرف للدردشة في آنٍ معاً، وبشخصياتٍ مختلفة في كلٍ منها، أن يستمعوا إلى موسيقا اختاروها، جمعوها أو حمَلوها من الإنترنت، وأن يتبادلوا الرسائل على أجهزة الخليوي مع أصدقائهم، وأن يقوموا بواجبهم المدرِسي، كل ذلك في الوقت نفسه! إن استخدام التكنولوجيا السائدة في هذا العصر والاستفادة مما تقَدمه من ميزات يجعل من الأولاد مستكشفين، باحثين عن حداثة، طالبين للمعلومة وقادرين على نقلها وكأنهم طيور العلم المهاجرة. 

لقد تغيرت علاقتنا بالوقت:

تختلف الفترات الزمنية التي نتعامل معها ونعيش فيها عن مثيلاتها في الأجيال السابقة، حيث نجد أنفسنا يوماً بعد يوم مضطرين للاستفادة من كل دقيقة وساعة في كل يوم من أيام الأسبوع. لاحظت مصانع الأغذية في الولايات المتحدة أن مبيعاتها من الأغذية المعلبة في انخفاضٍ مستمر، وذلك لأن معظم الناس لا يجدون الوقت لتناول الطعام في منازلهم، وكرد فعل على ذلك بدأت هذه المصانع بإنتاج صنفٍ من هذه الأغذية يؤكل في أثناء قيامك بعمل آخر دون الحاجة لتحضيره والجلوس لأكله، وأصبح البراد المركز الاجتماعي في المنزل، كل شخص يأكل في وقت معين ووفق نظامٍ معيَن، إلا المدارس، فمعظمها يغلق أبوابه ما بين الساعة الرابعة والخامسة مساءً.

حياة بضمانات أقل:

لم تعد الحياة تضمن لنا الكثير مما يمكننا الاعتماد عليه. لفقد انتهى ذلك الزمن الذي يحصل فيه المرء على عملٍ مدى الحياة عند انتهائه من الدراسة، وأصبح تغيير العمل بشكل مستمر والعمل في أكثر من مكان في آن واحد واقعاً لقسم كبير من القوى العاملة، وأصبح العمل في مجال الخدمات والسياحة، وخسارة الفرص لصالح الأيدي العاملة الغريبة، بالإضافة إلى صعوبة الحصول على التأمين الصحي وعلى غيرها من الميزات واقعاً للقسم الآخر من الفئة العاملة. على الرغم من ذلك يتم دفعنا باستمرار إلى التخطيط لحياتنا وتحديد مسارها بأنفسنا، ونحن نصدق كل الروايات التي تدعم المسار الذي اخترناه والمؤسسات التي تستغل هذه الروايات، فتلفزيون الواقع يروج لحلم كل مراهق بأنه يمكن أن يصبح نجماً مشهوراً. ولكن الدراسات والأبحاث تقول إن الشاب المتعلِّم السعيد والناجح يترك أثراً في العائلة والأصدقاء أكبر منه في سيناريوهات الحياة اللاواقعية.

أين هي قدوة الأطفال؟

إن العلاقات الاجتماعية في تدهورٍ مستمر. لم يعد معظم الأطفال يصادقون أقرانهم ممن يعيشون في نفس المحيط، حتى إن أطفال الحي الواحد في كثير من الأحيان لا يعرفون بعضهم بعضاً، وما زالت بعض البرامج الخطرة الدخيلة تحذر الأطفال من التعامل مع الغرباء، ما يطرح سؤالاً أساسياً: إلى أي مجموعة ينتمي هؤلاء الأطفال؟ ومع أي بيئة ينسجمون؟ أين هي القدوة لتوعيتهم وتوجيههم؟ هنالك الكثير ممن يمكن أن يرى فيه الأطفال مثالاً يُحتذى، لكن كل هؤلاء يزيدون التشويش وعدم الواقعية بدلاً من إزالتهما، فنجوم الغناء يظهرون بمظاهر غريبة وبعضهم يبدو كالمخنثين، أما أبطال الرياضة، الذين يصورون أحياناً كملائكة، يُظهِرون من العدوانية ما لا يمكن وصفه، وأما السياسيون فقد تحولت حياة أي منهم إلى مسلسل اجتماعي.

التكنولوجيا قوةٌ ذات نفوذٍ:

عندما كنا صغاراً كان يقال إن تكنولوجيا الوسادة الهوائية ستغير حياتنا إلى الأبد، لكن عدم انتشارها كان أحد أسباب عدم حدوث ذلك. وعلى النقيض تغيِر تكنولوجيا المعلومات في حياتنا بطريقة لا سابق لها، حيث تُقدِّم الإحصاءات حول صيحات الإنترنت، والرسائل النصية المرسلة، أو الساعات التي يقضيها الكثيرون في مشاهدة أكثر من نصف مليون محطة عبر العالم قراءةً منطقيةً وواقعيةً عن اختراق هذه التكنولوجيا لحياتنا ونفوذها فيها. وما زالت مصادر المعلومات في ازدياد. لكن في وسط هذا البحر الواسع من المعلومات، وسهولة توفرها أمام الجميع، نجد أنفسنا بحاجة ماسة إلى مرشدٍ يساعدنا على الإبحار بأمان في يمِّه، ولهذا لن يأتي يوم يصبح فيه المعلم زائداً عن الحاجة لأنه هو وحده من يعلِّم الأطفال القدرة على تمييز الحقائق في الإعلام الموجه بهدف الدعاية أو التعصب لجهة ما, إضافة إلى أن التحليل والدراسة بتمعن يمنح القدرة على استخدام  وسائل المعرفة في عالم تنظِّمه المبادئ والمعايير الأخلاقية.

الواقع مختلف!:

تختلف روح هذا العصر عمّا كانت عليه قبل ثلاثين أو أربعين سنة، فما هو متاح لهذا الجيل من الأطفال من الاستقلالية والخيارات لم يكن متاحا لمن قبله، كما أنه يمارس المزيد من الحرية التي تتطلب مسؤولياتٍ أقل، وإن صاحبها المزيد من الفحوص والاختبارات، بالإضافة إلى تزايد في الاضطراب الجسدي والشعور بالقلق. ومن هنا ينشأ السؤال: هل ينضج أولاد اليوم جسدياً في سن مبكرة؟ ثمة دليل يدعم الرأي القائل إن البلوغ يبدأ في سن مبكرة عند هذا الجيل من أولاد المدارس، إنه جيل الريتالين من جهة والبروزاك من جهة أخرى. الأول دواء يعالج حالات عدم الانتباه وفرط النشاط عند الأطفال، والآخر يستخدم كمضاد اكتئاب، وهو الجيل الذي نعلِّمه الذكاء العاطفي في المدارس!

لقد مر زمن تشكلت فيه قناعةٌ راسخة بأن استخدام القوة كافٍ لضمان تعاون الطلاب في العملية التعليمية وذلك يعود إلى مكانة التعلِّم في المجتمع، والنفوذ الواسع الذي تمتعت به المؤسسات التعليمية، وقوة سلطة المعلِّم داخل غرفة الصف بحد ذاتها. إن هذه القناعة، وإن كانت قد رسمت سمات عصرٍ كامل من التعليم، لم تنتج ما يمكن تسميَته عصراً ذهبياً للتعليم!

لم تعد السيطرة الفاشية، أو التعليم بالإكراه أو بديهية قيمة التعلّم بحد ذاته تشكل أدواتٍ نافعةً لضمان المشاركة والفعالية في غرفة الصف.

لم يسبق أن شعر المعلِّمون بالتحدي أمام الطلاب كما يشعرون مع هذا الجيل، كما أنهم لم يسبق أن شعروا بالحاجة للعمل بدرجة عالية من الحرفية والطاقة كما يفعلون الآن. يبذل المدرِسون اليوم جهداً كبيراً، ربما يفوق الجهد الذي يبذله الطلاب. إلا أننا نأمل انطلاقاً من تجربتنا بأن استخدام الطرق والوسائل فيما يسمى بالتعلُم السريع لن يستوجب من المدرِسين العمل بشكل أكبر وإنما العمل بذكاءٍ أكبر، بعد أن أخذوا على عاتقهم تلبية المتطلبات المتغيرة عبر الزمن.

تعمل الطرق الموصوفة في هذا الكتاب بفعَالية أكبر بوجود تفاهم مشترك بين المدرِّس والطالب حول ما يتطلبه التعلُم وما يستخدم فيه من طرق، والفوائد المكتسبة منه. لا تظن أن مجرد قيامك بتعليم شيءٍٍ ما يعني أنَّ الطلاب قد فهموه، وإلا ستقع في فخ ما يسمى "التعليم هو مجرد أداء"، إن التعلُم ليس رياضة للمشاهدة، فالمعرفة ليست شيء يتشربه الطالب دونما تفاعل معه وانفعال فيه إنما هي شيء يقوم بصياغته بطريقته الخاصة ليفهمه ويطبقه، فالتعلم يتولد مما يقوله المتعلِّم ويقوم به، وليس مما يقوله ويفعله أو يفكر فيه المعلِّم.
هذه الفكرة هي جوهر عملية التعلُم السريع، الذي يشغل الطالب ويجعله منهمكاً فيه وبالتالي فإنه يتم معه وبجهده، فهي ليست مجرد فكرة تطبق عليه ببساطة، لذلك فإن الطالب وليس المعلم هو من يجب أن يكون مرهقاً في نهاية العام الدراسي. في النهاية لا نقوم نحن إلا بتسريع تعليمهم.

يجب ألا توقعنا هذه الفكرة الجديدة في التركيز على أهمية التعلُّم والمتعلِّم في فخ أن نهمل دور المعلِّم. إن هذه النظرة في حقيقة الأمر توسِّع دور المعلِّم وتجعله أكثر شموليَّةً، بدل أن يكون مجرَّد أداءٍ. فهو يعرف الطالب بعملية التعلُّم وينظمها، يزيل الحاجز النفسي فيشجعه على المحاولة باطمئنان، والتجاوب بالشكل المطلوب، ثم يقوم بسبر معلوماته بالأسئلة. هكذا يقوم المعلم بإدارة العملية كلها، فهو بهذا الدور مهندسُ التعلُم، وليس الشخص الذي يقوم بتسليم الإسمنت والرمل والماء والقرميد.

حاولنا أن نكون بعيدين عن أسلوب الخطابة والبلاغة، فقمنا بتعريف نموذج التعلُم السريع بأربع طرق: نحن نقدِّم (1) نموذجاً مجَرباً ومختبراً، (2) أسساً نظريةً، (3) استراتيجياتٍ عملية، و(4) حلولاً منطقيةً للمعلِّمين، وبهذا تحصل على نموذج، نظرية، استراتيجيات، وحلول، كل ما نحاول أن نقوم بهٍِ هو الجمع بين فن التعليم وعلم التعلّم.

يمكننا الادعاء أن بعض عملنا يقوم بإنعاش وتحديث أجزاء التعليم التي عجزت نظريات التعلُم عن الوصول إليها، ولهذا السبب فإنه قد جذب الكثير من اهتمام الرأي العام. ليس التعلُم السريع من وجهة نظرنا عبارة عن شرب ماءٍ، تناول موزٍ، أو سماع موٍسيقا "موتسارت" أو القيام بنشاط ترفيهي يريحنا من التفكير. إنه على العكس من ذلك نموذجٌ منَظم، مدروس وسهل التحكم في جعل المتعلِمين منهمكين بفعالية في عملية التعلُم. إن التعلّم السريع يتميز بما لا يتميَّز به غيره من الارتباط الوثيق بين الأساليب والنتائج، فهو يعي أهمية تلبية الحاجة إلى وجود مناهج تراعي العاطفة لدى المتعلّمين، في الوقت الذي ترقى فيه بمستواهم الأكاديمي.  نحن نتبنى تكنولوجيات جديدة ونقول إنها تجعل فهم عملية التعلّم أمراً أكثر إلحاحاً بالنسبة للمعلمين، حيث أن التكنولوجيات الصاعدة لن تقوم بحد ذاتها بصنع متعلّمين أفضل، إلا أن المعلّمين، ومنهم من لا يزال غير مدركٍ لتأثيره الفعّال وقدرته الطليقة، سيفعلون ذلك مهما كان الثمن.

 

بتصرف من كتاب التعلم السريع: كتيب المستخدم. ديريك وايز.