يُدهش المرء لبراعة الطفل في التعلّم منذ الولادة حتى عمر الخمس سنوات، فعندما يتعلم الطفل لغته الأم، لا يبدأ بتعلم الأحرف الأبجدية أولاً، ومن ثم الكلمات، ومن ثم الجمل، بل يقوم بالعكس. إن جميع من يحيط به يوجه له الكلام وكأنه كبير –يبدأ معه بالصورة الكلية النهائية المطلوبة- فيبني الطفل تدريجياً في عقله تركيباً عن كيفية عمل لغته الأم، فيكتشف القواعد بنفسه. أما المفردات فيتمّ بناؤها على شكل عبارات في سياق من موقف واقعي من حياته الطبيعية، فلا أحد يعلّمه القواعد أو قوائم الأسماء التي يتعلمها.

ليس التعلم امتصاصاً للمعرفة المجزأة بشكل خطي، بل عملية امتصاص مجموعة من الأشياء دفعة واحدة، لأن الدماغ ليس معالجاً تتابعياً خطياً، بل هو معالج متعدد المسارات، ويزداد تطوراً كلما كبر التحدي لفعل أشياء أكثر دفعة واحدة. إن التعليم التقليدي تعليم تتابعي يعزز الدماغ الأيسر، بينما يحتاج التعليم الفعّال إلى التفكير الخطي المنطقي للدماغ الأيسر، وبنفس الوقت إلى التفكير الشمولي الإبداعي للدماغ الأيمن. فالتعلم يحدث في مستويات عدة في الوقت ذاته. شيء آخر، للدماغ قدرة أكبر على معالجة الصور من معالجة الكلمات، فالصور وخاصة الملونة منها أسهل للتذكر من الكلمات. فنحن نتذكر المختلف والمميز بسهولة، ونتذكر الأشياء المترابطة والموجودة بمجموعات، وننسى العادي والممل بسرعة. (مرض تجزئة المعرفة وتناقضها)

كيف يتم نقل وتشرُّب مبادئ التعلم السريع؟ إن أحدنا مهما أتى بوصفات ناجحة من أفضل طباخ يعرفه وحفظها وقام بكل ما يلزم ليتقنها، لا يتقنها إلا عندما يدخل المطبخ، ولو أنه تعلم مباشرة في المطبخ لكان الأمر أيسر وأسرع كذلك. إن أفضل عملية نقل وتشرُّب مهارة قيادة السيارة هي المباشرة بالقيادة رأساً. إذاً التدريب والتعلم السريع لمبادئ التعلم السريع هو المباشرة بالتطبيق والممارسة، ثم القيام بالتغذية الراجعة، بعدها المراجعة، ومن ثم التطبيق والممارسة مرة أخرى.

الإصطباغ في التعلّم: كلما كان الوضع النفسي والشعوري والجسدي والعقلي بعيش هاجس العلم والعمل معاً كلما كان التعلّم موفقاً أكثر، ورحم الله أولئك الذين كانوا يسمعون بالمسألة فيطبقونها لا يزيدون عليها شيئاً حتى تصبح عملاً من أعمالهم، ثم يتعلمون مسالة أخرى وهكذا. وكلما كان ديدن المرء ذلك أصبح زمانه ومكانه بيئة تعلّم، وانغمس كلياً في حالة التعلُّم وهو المدعو إليه بطلب العلم، وهو ما اصطلحنا أن نسميه الاصطباغ في التعلم. ورحم الله من قال: لا يسمى العلم علماً إلا عندما يكون القلب كانطباع البياض في البياض والسواد في السواد. يفكر عقله وينفذ جسده وتنتشي أحاسيسه بسعادة غامرة.

 

الدكتور محمد ابراهيم بدرة.

دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.

 
د. محمد ابراهيم بدره