لقد ثبت أنّه كلما كان اتصال نصفي الدماغ أفضل زادت قدرته على التعلّم والإبداع. كما أظهرت أعمال روجر سبيري أنّ تطوير الأشخاص لمهارة عقلية معيّنة يؤدي إلى تطور ملحوظ في جميع مجالات النشاط العقلي، بما فيها تلك الخامدة منها، وهذا ينفي الاعتقاد الشائع بأنّ الفنانين والموسيقيين (الأشخاص ذوو الدماغ الأيمن) ضعفاء حتماً في الرياضيات.

إن ليوناردو دافنشي مثال عن العبقرية التي يمكن أن تتحرّر عندما تتوحّد نشاطات نصفي الدماغ الأيمن والأيسر بشكل كامل، فكان مثال الفنان الموهوب، وعالم عصره في العلوم والرياضيات في ستة مجالات على الأقلّ، وكان قادراً على الكتابة بيديه اليمنى واليسرى في الوقت ذاته.

ومازال حديث الباحثين في التعليم عن "التعلّم بكامل الدماغ" في تزايد مستمرّ، فقد علّق جوزف بوجِن في مقال له في مجلة U.C.L.A. إديوكيتور بالكلمات التالية "إنّ التركيز الحالي في التعليم على اكتساب المهارات الكلامية، وتطوير عمليات التفكير التحليلي يُهمِل تطوير القدرات غير الكلامية" وهذا يعني "حرمان أحد نصفي الدماغ وتجاهل دوره في وظائف الإنسان الكامل." وقد ذكر ستوارت دياموند الأستاذ الجامعي السابق في علم النفس في كارديف في كتاب له بعنوان الدماغ المضاعف أنّه "عندما يعمل نصفا الدماغ معاً يصبح أداء كلّ منهما أفضل بكثير مما لو عمل لوحده".

كما وجد الدكتور برنارد غلويك من معهد فورليفينغ إن هارتفورد في كينيتيكت في أمريكا أنّ الرجال والنساء الذين يمارسون التأمّل أظهروا تزايداً في التزامن بين طرفي الدماغ، الأيمن والأيسر، وهذا يبيّن تطوّراً في الاتصال خلال الجسم الجاسئ، يعود إلى بلوغ حالة الاسترخاء وزيادة أمواج ألفا الدماغية. وقد اتفق العديد من علماء النفس على نظرية منطقية تقول بأنه عندما يحصل تواصل متبادل بين نصفي الدماغ الأيمن والأيسر، يتحد الوعي واللاوعي في العقل، وتصبح نسبة موجات ثيتا الدماغية أعلى بكثير من الطبيعي، وهذه هي اللحظة التي يقلّ فيها النشاط المنطقي لنصف الدماغ الأيسر، والدماغ الأيسر الذي يقوم عادة بمراقبة أو غربَلة اللاوعي يتخلى عن دوره كحارس ويسمح للدماغ الأيمن بأنْ يزيد من دوره في التفكير الإبداعي والعاطفي والحدسي العميق شيئاً فشيئاً.

وقد أكّدت معظم الآراء في التفكير الإبداعي أهمية تشجيع تكوين صورة ذهنية لما نفكّر به في الدماغ الأيمن بداية، وهو حلّ المسائل بإدراكها بالحدس أولاً، والذي يمكن أنْ تقيّمه عمليات الدماغ الأيسر منطقياً فيما بعد، لكنّ المحفّز الأصلي يأتي من الطرف غير الكلامي في دماغنا (الأيمن). وإذا علمْنا أنّ الاتصال غير الكلامي يُعزى إلى عمل الدماغ الأيمن، وأن السلوك غير الكلامي يشكّل حوالي 80% من الاتصال عند الإنسان، يمكننا أن نفهم كيف يمكن لأنظمة التعلّم الموجّهة إلى الدماغ الأيسر فقط أنْ تحدّ من تطوّرنا العقلي. ويرى المختصون أننا نستخدم بشكل مركز القسم الأيسر من الدماغ في تعليمنا التقليدي على اختلاف دولنا ونظم تعليمنا، والذي يعتمد على الكلمات والأرقام والعلاقات المنطقية. كما أن الاختبارات غالباً ما تقيس عمليات يقوم بها القسم الأيسر من الدماغ. ويعاب على هذا النوع من التعليم أنه لا يركز على الفهم بشكل رئيس، كما أنه لا يتيح للمتعلم فرصة لبناء رؤيته الشخصية وأحكامه.

ويغلب على هذا التعليم أنه يقدم المعرفة كأجزاء مستقلة لا رابط بينها، بحيث يراها المتعلم كجزر معزولة يفصلها مساحات مائية، ولا يتعمق المتعلم إلى ما تحت السطح فيرى مدى ارتباط تلك الجزر ببعضها. ولا يقتصر الأمر على فروع المعرفة التي قد تكون ظاهرياً بعيدة عن بعضها، كمواد الاجتماعيات، اللغة العربية، العلوم، وغيرها، بل يدخل التقسيم إلى مجالات العلم الواحد (فيزياء، كيمياء، أحياء، علم أرض)، كما أنه يمتد ليفصل العمليات في ذات المادة، بحيث يراها المتعلم مواضيع مستقلة.

خاتمة:

في الحقيقة لا يمكننا تبسيط المسألة والتعبير عن قدرة الدماغ بمجرّد الحديث عن الذكاء، إلا أننا يمكن أنْ نتحدث عن ذلك في ثلاث جمل: معدّل مستوى الـ IQ العادي هو 100، أما مستوى العبقرية فيصل إلى 160. والشخص العادي يستخدم 4 % تقريباً من قوة دماغه الكامنة. فإذا استطعنا أنْ نعلّم الشخص العادي كيف يستخدم 7 % من قوة دماغه كحد أدنى بدلاً من استخدام 4% فقط، فهل يمكنه عندها الوصول إلى مستوى العبقرية؟ يقدم هذا الكتاب تقنيات مفيدة في زيادة قدرة البشر على الإبداع، وتُمكنهم من الاستفادة من الجزء غير المستخدم من قدرة الدماغ. وتوجد دلالات تشير إلى أنّ التقنيات ذاتها تؤدي إلى تحسين الذكاء.

 

الدكتور محمد ابراهيم بدرة

دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.