يحتوي الجهاز الحوفي في الدماغ البشري على أدوات متعلقة بفهم الموسيقى ومعالجتها, وقد مر معنا سابقاً أن هذا الجهاز هو أيضاً المسؤول عن الذاكرة طويلة الأمد. من هنا يتضح الارتباط العضوي بين الموسيقى والذاكرة في دماغ الإنسان.

وقبل الخوض في هذا الموضوع لابد أن ننتبه إلى شيئين: الأول: لابد من الاطلاع على الأبحاث الحديثة في هذا المجال حتى نفهم دور الموسيقى الذي استثمره لوزانوف حتى نستطيع بعدها العودة إلى تراثنا وأصالتنا لإيجاد البديل الفعال. الشيء الثاني: لا تعني كلمة موسيقى ألحان المعازف فقط بل تشمل الإيقاع، والرتم، ولحن الصوت، والرنين، وأشياء أخرى كثيرة. بمعنى أن المعازف جزء من الموسيقى، وليست كل الموسيقى، وسنتابع سوية هذا الموضوع مع التأكيد على شمولية معنى كلمة "موسيقى".

يمكن لهذا الارتباط العضوي أن يفسر لنا كيف يمكن أن نجد طالباً في المدرسة الثانوية غير قادر على حفظ ترتيب العناصر الكيميائية في الجدول الدوري, إلا أنه يحفظ عن ظهر قلب, ودون حتى أن يبذل جهداً تجاه الموضوع, كلمات ما لا يقل عن مائة وخمسين أغنية أو أنشودة. إن السر هنا هو في التلاحم بين الموسيقى والذاكرة. اليوم, يتعلم أطفالنا الأحرف الأبجدية من خلال غنائها, كما يتعلمون جدول الضرب من خلال الإيقاع. وفوق ذلك, يستخدم المعلنون الموسيقى والإيقاع ليجبرونا على حفظ أسماء منتجاتهم.

الإيقاع، إن الإيقاع هو القلب النابض للكون والعالم الطبيعي، فالنجوم والكواكب تَسيرُ في إيقاع منتظم، والتأثير المباشرُ للقمر يَكونُ في إيقاع منتظم، ولا شّك أنَّ الفصول تمر في إيقاع مُنتظم. فالكائن البشري يَحكمُه الإيقاع أيضاً، فكلٌ منا لديه إيقاعٌ يوميٌ معيّنٌ في حياته، وهي دورتنا اليومية. كذلك هرموناتنا ترتفع وتنخفض في تعاقب منظم.

تجارب مثيرة:

الدكتور سينغ و"سيرناد"

لقد ثَبتَ بما لا يَدَع مكاناً للشّك حقيقة أنَّ للموسيقى والإيقاع تأثيرٌ مباشر على جَميع الكائنات الحية وذلك منْ خلال سلسلة منَ التجارب التي أُجريت على النباتات، وقد بَدَتْ هذه التجارب غريبةً لأول وهلة، فقد بَدَأتْ بمجموعة منَ الاختبارات التي أجراها الدكتور سينغ، وهو مدير قسم علم النبات في جامعة آنامالاي في الهند، وقد حثه على ذلك الحسابات الموجودة في أدب التاميل[1][1] القديم للفلاحين والذين استخدموا الموسيقى لتحريض المحاصيل على النمو، فقام الدكتور سينغ بتشغيل موسيقى "تُشبه العود" على آلة تسجيل لنباتات البلسم. واستُخدمَ كمقياس للمقارنة للتأكد منْ نتائج التجربة مجموعة مماثلة منَ النباتات تحصل على الكميات المماثلة منَ الماء ولكن دون موسيقى، وتبيّن في غضون عدة أَشهر أنَّ النباتات التي أسمعوها موسيقى "سيرناد" قد نما عليها أوراق أكثر بنسبة 72% وأصبحت أطول منَ النبات الآخر بنسبة 20%. وقد شكلت لديه المزيد منَ الاختبارات قناعةً كافية ليبدأ بمجموعة منَ الاختبارات الأكبر للقياس وذلك باستخدام مكبرات صوت تذيع الموسيقى في حقول الأرز! فكانت النتيجة أنّ محاصيل الحصاد تزايدت بنسبة تتراوح بين 25-60 % منَ المعدل العادي في حصاد المنطقة.

السيدة ريتلاك والباروك:

أما السيدة ريترلاك من دينفر، وبالرّغم منْ سخرية زملائها منها، قامت في الجامعة باختبار التأثير المقارن لموسيقى الروك مقابل الموسيقى الكلاسيكية على الخضراوات. النباتات التي كانت في الغرفة التي تعزف فيها موسيقى الروك نمت بطول غير طبيعي بأوراق صغيرة، ومنها ما توقف عن النمو. وفي كُل الأحوال فإن النباتات مالت بعيداً عن مصدر موسيقى الروك، ثم ماتت النباتات في غضون أسبوعين. أما في الغرفة المماثلة المستخدمة للمقارنة أزهرت النباتات التي تعرضت لموسيقى منْ مؤلفات الباروك مع موسيقى هايدن وبراهامز وبيتهوفن، ونمت متجاوزة النباتات المقارنة ومالت باتجاه مصدر الصوت. وعندما اختَبَرتْ باخ ومختارات من موسيقى هندية كلاسيكية عُزفت على آلة السيتار الهندية، يعزفها رافي شانكار مالت النباتات باتجاه الموسيقى لدرجة لَمْ يسبق لها مثيل بنسبة 60 درجة، أما أقرب نبتة فقد نمت تماماً ولفت نفسها حول مكبرات الصوت.

موسيقى الروك:

لاشك أَنّ الموسيقى المختلفة لها تأثيرٌ مختلف على الأشخاص، يقول الباحث الفرنسي ممي بولانجير أَنَّ: "عزف موسيقى موتسارت تُنسّق بين إيقاع الموجات الدماغية وإيقاع حركة جهاز الدوران والحركات التنفسية، وهذا يؤدي إلى أثر إيجابيّ على الصحة، فهي تعمل على زيادة الإدراك الحسي وقدرة الإنسان على استقبال المحفزات في اللاوعي". والعكس صحيح، فهناك أنواع أخرى من الموسيقى لها أثر سلبي على الصحة.

في تجربة شهيرة حديثة، طُلب مِنَ الأشخاص الموضوعين تحت التجربة أَنْ يمدوا ذراعهم اليمنى أفقيّاً وتم قياس مقاومة كُلّ شخص لهبوط الضغط. ثم طُلب مِنَ الطلاب أَنْ يسترخوا وتم تكرار العملية بعد نصف ساعة لكن هذه المرة مع الاستماع إلى موسيقى الروك لـ"ليد زيبيلن"، فوُجِدَ أَنّ مقاومة كُلّ فرد ضَعُفَت إلى حدٍّ كبير! ثم أعيد الاختبار مع الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، وُجد أَنّ هذا النوع مِنَ الموسيقى إما يَترك أثراً حيادياً أو يقوّي المقاومة. يمكنك أنْ تجرّب ذلك بنفسك!

ومَن يرتاب في الخاصية الفيزيائية للموسيقى، عليه أَنْ يسأل أحد المحترفين في موسيقى الروك. حيث يُعتقد أنّ السبب في استخدام موسيقى الروك لكثير مِنَ آلات الغيتار ذات الصوت العالي والجهير[2][2] هو أنها مثيرة للغرائز الجنسية، وهذا لأنها تهتز في تواتر معين وهو التواتر نفسه الذي تهتز به الأعضاء التناسلية. أي أنَّ الروك تبدو أنها مثيرة للغرائز وذلك لأنها جنسية جسدياً.

الباروك موسيقى لوزانوف:

إن هذه التجارب ونتائجها تقدم الكثير من الدلائل، كما أنها تقدم بيّنة ظرفية مهمة تثبت التأثير المفيد للموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الباروك على الكائنات الحية البسيطة. ولكن كيف حدث ذلك؟ يبدو أن مؤلفي الباروك قد ورثوا الاعتقاد بأنَّ هناك هندسة مقدسة في الكون، وأنَّ الطبيعة وجسم الإنسان خاضع لمجموعة مِنَ النِسَب والمتناسبات المحددة. فإذا استطعنا توليد هذه "الموارد الثمينة" مِنْ خلال الفن والهندسة المعمارية والموسيقى، فإنَّ الناتج سيتناغم بفعل قوة معززة للحياة وسينعكس ذلك على العالم.

الدكتور محمد ابراهيم بدرة

دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.