لقد أتت الثورة الصناعية التكنولوجية بحضارة ذات غنىً عظيم، إلا أنها بذات الوقت ساعدت على إفراغ العالم من محتواه الروحي، ووظفت الطبيعة في خدمة الصناعة بشكل قاسي مما أدى إلى غياب الإنسانية من الحياة ومن مناخ العمل بشكل كبير. وانتشرت النظرة الميكانيكية للعالم مما أدى إلى رؤية الطبيعة على أنها مجموعة كبيرة من الأجزاء المستقلة عن بعضها البعض.

أدت هذه الرؤية إلى تجزئة المعرفة، وتم تقسيم التعليم إلى مواد تعليمية يتم تدريس كل منها بمعزل عن الأخرى ودون ربطها ببعضها البعض. ففي المدارس مثلاً يتم تعليم الرياضيات دون ربطها بالفيزياء، والفيزياء دون ربطها بمادة علوم الأحياء، وعلوم الاحياء دون ربطها بمادة الكيمياء، وهكذا. أما بالنسبة إلى الدراسات الجامعية فلقد كثرت التجزئة والتقسيم والتخصص حتى أصبح المتخصص يعرف الكثير جداً في جزء ما ويجهل الأكثر عن بقية الأجزاء ناهيك عن جهله بعلاقة ما يتخصص به مع بقية الاختصاصات المهمة ذات العلاقة!

وليست المواد غير مرتبطة ببعضها البعض فقط، بل غير مرتبطة بالواقع! لقد كتب الخبير في التعليم ستيفن كوتر في صحيفة المجتمع مِنْ أجل التعليم والتعلم السريع[1] "عندما تنظر إلى الطرق الحديثة في تقديم المعلومات، فإنَّك تجد أنَّك تحصل على معلومات مِنْ متخصصين يعرفون أكثر فأكثر عن مواضيع أقل فأقل. فكتب التاريخ تبدو عادةً مخزن جافّ من الحقائق، أما نصوص القواعد فهي مخزن جافّ من القواعد دون تفسير أو ارتباط بالحياة الواقعية. عندما يدرس الناس نماذج من المعلومات معزولة عن واقع الحياة، فإنهم يحاولون حفظ وتذكّر تفاصيل لا معنى لها بالنسبة لهم، ولذلك تُنسى بسرعة".

إن الغوص بتفاصيل موضوع ما أمر جيد على أن تبقى علاقتها بالموضوع الأساسي واضحة في أذهاننا، ولكن كثيراً ما نجد أن هذا الأمر غائب في العملية التعليمية. لقد قسمنا المعرفة وغصنا في تفاصيلها لدرجة أننا تهنا عن أهدافنا منها. إن مناهجنا التعليمية أمست تعاني من عدم وضوح الرؤية عند المتعلم وربما عند المعلم بالهدف الذي يدرس بسببه مادة ما، أو حتى وحدة تعليمية ما، حتى أن الأهداف الصغيرة التي تتعلق بذكر هدف الوحدة التعليمية تكاد لا تذكر مما يضعف الحافز للعملية التعليمية عند المتعلم والمعلم وبالتالي تتدهور العملية التعليمية. إذا سألنا مدرس مادة ما عن المحصلة الأخيرة التي سيصل إليها المتعلم في آخر الفصل الدراسي، بل ما هي المحصلة في آخر الدرس، فكم من مدرسينا يستطيع الإجابة بشكل واضح؟ وذات الشيء ينطبق في كثير من جامعاتنا، وفي الكثير من التدريب الذي يتم في الشركات.

كان فريق مركز دبي للتعلم السريع يقوم بسبر الاحتياجات لإحدى المدارس الرائدة في قطر تمهيداً لتقديم خطة تنموية خاصة بالمدرسة، وكان حضورنا في الصفوف لمراقبة الأنشطة الصفية وطرح الأسئلة على المتعلمين والمعلمين جزءاً من عملية تقييم الاحتياجات. ومن الأسئلة التي تم طرحها على المتعلمين: ماهو موضوع الدرس الآن؟ وما علاقته ببقية المواد؟ وكيف ستستفيد منه في حياتك؟ ولك أن تتخيل أنه لم نجد متعلماً واحداً استطاع الإجابة عليها! لك أن تتخيل كم كان أثر التقسيم المعرفي على العملية التعليمية لدرجة أن الصورة الكبيرة الخاصة بالمادة أو الخاصة بالدرس كانت غير واضحة عند المتعلمين وأحياناً عند المعلمين. وهذا بدوره أفقد العملية روحانيتها وأفقدها إنسانيتها، بل أصبحت عملية روتينية تشكل واجباً ثقيلاً على المتعلم وحتى المعلم، ولابد من القيام به. أفقدها روح التحدي والإثارة والتشويق والمتعة والتي طالما ارتبطت بأي عملية تعلم حقيقية[2].

الترياق:

لقد كتب الخبير في التعليم ستيفن كوتر في صحيفة المجتمع مِنْ أجل التعليم والتعلم السريع[3] مؤكداً أنَّ التعليم لطالما كان مبنياً على فكرة الترابط والتكامل، حيث لَمْ تكن المواد أصلاً معزولة عن بعضها فالموسيقى مثلاً كانت تُعَلّمْ مرتبطةً بالرياضيات، وقد كتب في ذلك: "عندما ترتبط القواعد بالأدب لا ينسى الطالب الأدب ولا القواعد، فعندما نقدم المعلومات في سياق غني بالروابط (مثلاً: بين الأدب والقواعد)، يصبح من السهل على الطالب أنْ يتذكره ويستخدمه".

بالنسبة إلى تجزئة المعرفة نجد أن التعليم التقليدي يركز على تعلم شيء واحد في كل مرحلة، في حين أن التعلم السريع يسعى إلى تعلم مجموعة من الأشياء في آن واحد وفي بيئة أقرب للعالم الحقيقي، بشكل يتماشى مع أبحاث الدماغ التي تؤكد على أنه يكون فعالاً أكثر كلما كان الترابط أكثر وكلما أعطي تحديات أكثر وكلما تمت مواجهته بكميات أكبر من المعلومات. إن التعليم الطبيعي هو تعليم شمولي وليس مرحلي.

ولابد من وضع قائمة أهداف المادة التعليمية في بدايتها، مع ذكر أهميتها وفوائدها واستعمالاتها في الحياة الواقعية، فيقوى بذلك الحافز عند المتعلم وبالتالي يزداد احتمال نجاح العملية التعليمية.

أما بالنسبة للتناقض المعرفي فلابد من العودة لدراسة المناهج على أساس عدم التناقض، على أساس من التكامل والترابط، وتوضيح الفروق المنهجية بين النظريات والحقائق العلمية ومناهج البحث عن الحقائق في كل حضارة وفي كل أمة مما تنامى إلينا معرفته.

بعد هذا العرض الموجز لما سميناه مجازاً "مرضاً تعليمياً تربوياً" يصبح واضحاً أن ما يعطي هذا المرض قوته هو تحوله إلى بديهيات في التعليم، واعتباره الشكل الذي كانت عليه الأمور وستستمر عليه. إننا بدون شك بحاجة إلى ثورة حقيقية للتخلص من هذه الأمراض التي حولت التعليم إلى عملية غير فعالة، وغير طبيعية كئيبة وصعبة، حولت المعلم إلى مركز العملية، وحولت المتعلم إلى مستهلك دون إبداع. وحولت بيئة التعليم إلى سجن مخيف ينتشر فيه الملل والكآبة والخوف، وحولتنا كبشر إلى معاقين تعليمياً.

إذا استطاع الطبيب تشخيص المرض وصل إلى نصف الحل وهان عليه وصف الدواء. وفي حال اهتمامك بالتعليم وتحسينه فلابد أن الكثير من الأمراض الواردة سابقاً وطرق علاجها أصبحت واضحة لديك، وعلينا الآن البحث عن آليات لتطبيق ذلك على أرض الواقع، وهذا ما ستجده في كتاب "التعلم الطبيعي- التعلم السريع".

الدكتور محمد ابراهيم بدرة

دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.

[1] Society for Accelerated Learning and Teaching (S A L T)

[2]  أما عن التناقض المعرفي فهذا مرض أصابنا أكثر من غيرنا، ولقد بدأ ظهور هذا المرض عندما تم فصل الرقابة الأزهرية عن المناهج التعليمية وأصبح هناك منهجان، مناهج تُراقب من الأزهر أو الجهات التي تنوب عنه، ومناهج أخرى نُقلت بتصرف عن المناهج الغربية دون الرجوع إلى الجهات الوصائية الشرعية.

سبب التناقض المعرفي أن الطالب يتلقى موضوعاً واحداً في مادتين بتناقض تام، فترى الطالب يدخل عليه مدرس مادة علوم الأحياء ليشرح له نظرية النشوء والترقي، وأن التطور دائماً كان يأتي بطفرة، وطفرة الإنسان جاءت من قرد تحول إلى بشر وهكذا، دون أن يفهم معنى النظرية وأنها شق تاريخي لا ترقى للحقيقة العلمية بحال، فيستقر في ذهنه أن الإنسان طفرة تحول من قرد. ويدخل بعده مدرس مادة التربية الإسلامية فيقول له مثلاً أن آدم خلق من تراب وهو الإنسان الأول الذي خلقه الله عز وجل بيديه ونفخ فيه من روحه، وعلى هذا فقس.

ونحن بشكل عام مجتمع شرقي متأصل في جذوره الأثر الديني وفي تربيته وحسه، وهنا لا يعنينا مناقشة الخطأ والصحة في هذا المثال بقدر ما يعنينا أن نسلط الضوء على مثال من التناقض المعرفي نتيجته ضياع المتعلم وتشتته، وأثر ذلك على النفس البشرية وبالتالي تدهور العملية التعليمية.

تتجسد المشكلة في أن المفكرين العرب من رواد القرن الماضي رأوا أن الغرب تقدم بالعلم ونحن (العرب) تأخرنا بسبب الجهل، وهذا صحيح إلا أنهم رأوا أن الغرب تقدم عندما ثار العلماء على قواعد الكنيسة وخالفوا ثوابتها بعد أن عرضوا هذه القواعد على العلم فكانت مخالفة له[2]، فآثروا أن يمشوا مع ما يقتضيه العلم، ويهجروا في حضارتهم ثوابت الكنيسة، وهذا صحيح. فجاء رواد الفكر عندنا وقلدوا هذه الظاهرة في الغرب في بلادنا، ومباشرةً أتوا فرفضوا ما أتى به الدين وتبعوا الحضارة الغربية ظناً منهم أن هذا يكفل لهم تقدمهم. والواقع أنهم لم يكونوا أمناء حتى في التقليد، بل على العكس، فهم لم يحاكموا نصوص الإسلام بقوانين العلم (كما فعلوا الغربيين)، بل رفضوا الإسلام لأنهم مع العلم.

خلاصة هذا التناقض أن المناهج أصبحت تحمل الشيء الكثير من التناقض حسب نظريات لم يقطع بها الغرب إلا أنها تعارض منهج التعليم الديني لدينا، فتولد هذا التناقض المنفر جملة وتفصيلاً من العملية التعليمية عند المتعلم أو المعلم، الإضافة إلى حدوث تشويش كبير عند المتعلم وحيرة في اختيار المعرفة الأصح مما يُعرض عليه.