لقد ورثنا عقلية استخدام العصا وما تعنيه من تهديد بشكل كبير من الحضارة الغربية، يقول جون روبنسن في كتابه "حياة الطفل في الفترة الاستعمارية" والذي صدر في العام 1899: "من المؤكد أن في كل طفل نوع من العناد والجرأة الناتجين عن الشعور الطبيعي بالاعتزاز بالذات، وهو ما لا بد من تحطيمه في المرحلة الأولى، بحيث يمكن بناء التعليم لاحقاً على أرضية من التواضع وسهولة الانقياد. ويأتي بعد ذلك دور الفضائل الأخرى ليتم بناؤها." ويقول أيضاً: "إذا لم تستخدم العصا فقد أفسدت الطفل". وعلى ما يبدو أن مرض العصا تم استيراده أيضاً مع ما استوردناه، أو على الأقل عزز وجوده في نظامنا التعليمي.

كانت العصا والتلويح بها بل واستخدامها مألوفاً في مدارسنا إلى وقت قريب، حيث صدرت القوانين التي تمنع الضرب في المدارس والحمد لله. وبعد صدور القوانين التي تمنع العصا قام الكثير باستبدالها بعصا نفسية، بأساليب لا تقل قمعاً عن تعذيب الجسد، أصبحت أساليب لتعذيب الروح. ولا زالت عبارة "أعطيناك ابننا لحماً، وتستطيع إرجاعه لنا عظماً" مألوفة عندما يقولها الآباء للمعلمين بقصد التشجيع على ضرب أبنائهم. على ما يبدو أن العقوبات الجسدية والألم من أساسيات تنشئة الأطفال، نعم لقد اتحد الألم والتعليم بقوة في نظامنا التعليمي، ولا يزال هذا الاتحاد موجود في عقول الكثير منا ولو بشكل غير واعٍ.

وبالتالي تصبح المشاعر المرتبطة بالتعلم هي التوتر (عدو التعلم الأول) والخوف والقسوة والجدية والإحساس بالسجن. وإذا كان المطلوب من النظام التعليمي أن يدفع المتعلم كي يتعلم، فإن ما يحدث عموماً أن المتعلمين يقومون بالتعلم خوفاً من العقوبة وليس رغبة في التعلم، فانتشر الاستظهار والحفظ دون فهم في بيئة مخيفة للمتعلم وخالية من المتعة والمرح والشغف. مما جعل من الجمود والمنطق التحليلي الطريق الأوحد للمعرفة.

والعصا موجودة أيضاً في الكثير من أقسام التدريب في شركاتنا، حيث تم استبدال العقوبات الجسدية "بعقوبات مؤسساتية"، مما جعل من بيئة التدريب فيها بيئة مملة، فمعظم التدريب يتم في قاعات مغلقة شبيهة بالسجن تعتمد الإنارة الصناعية، ومن خلال محاضرات طويلة مملة، وعروض بوربوينت، والتمركز على المدرب كأساس للعملية التعليمية.

الترياق:

الأساس أن يندفع المتعلم للتعلم برغبة وشغف وبغاية التعلم للاستفادة منه في حياته، لا أن يتعلم خوفاً من العقوبة، أي عقوبة كانت، بعصا أو بغيرها. إن العلاج الفعال هو استبعاد العصا بكل أنواعها، وإيجاد بيئة تعليمية تشجع على الانفتاح والتشجيع والمتعة. لابد من الابتعاد عن كل ما يوحي بالخوف والضغط النفسي والملل والألم.

لا ندعي هنا أن الجدية شيئاً معيباً للعملية التعليمية أبداً، ولكن ألا توجد جدية إنسانية؟ ألا توجد جدية ممتعة؟ ألا توجد جدية مرحة؟ إنها دعوة للتعليم باللعب الجدي، والمتعة الجدية. إن التعلم السريع يؤمن بأن الإحساس بالمتعة في التعلم هو روح التعلم الذي يوصل إلى نتائج حقيقية.

" لدينا الكثير لنتعلمه من أطفالنا في هذا الإطار. إن الأطفال هم بلا منازع أكثر المتعلمين "سرعة"، لأنهم يتعلمون بكل المتعة الممكنة. إذا توقفت يوماً أمام مادة مملة تريد تدريسها، عليك أن تسأل نفسك سؤالاً مهماً: كيف يمكن أن أدرِّس هذه المادة للأطفال؟ كيف يمكن أن أُدخل المتعة إلى هذه التجربة الصعبة؟ إن طرح هذا السؤال مجدداً في كل مرة تقف أمام تجربة تعليمية أو تدريبية سوف يشفيك ويشفي مؤسستك من أي غبار عالق بك من مرض العصا والجدية، كما سوف يؤدي إلى تحسين مستوى التدريب الذي تقدمه، إذ أن التعليم المتين لا يأتي بدون الحس الداخلي بالمتعة لدى الكبار والصغار على حد سواء.

بعد هذا العرض الموجز لما سميناه مجازاً "مرضاً تعليمياً تربوياً" يصبح واضحاً أن ما يعطي هذا المرض قوته هو تحوله إلى بديهيات في التعليم، واعتباره الشكل الذي كانت عليه الأمور وستستمر عليه. إننا بدون شك بحاجة إلى ثورة حقيقية للتخلص من هذه الأمراض التي حولت التعليم إلى عملية غير فعالة، وغير طبيعية كئيبة وصعبة، حولت المعلم إلى مركز العملية، وحولت المتعلم إلى مستهلك دون إبداع. وحولت بيئة التعليم إلى سجن مخيف ينتشر فيه الملل والكآبة والخوف، وحولتنا كبشر إلى معاقين تعليمياً.

إذا استطاع الطبيب تشخيص المرض وصل إلى نصف الحل وهان عليه وصف الدواء. وفي حال اهتمامك بالتعليم وتحسينه فلابد أن الكثير من الأمراض الواردة سابقاً وطرق علاجها أصبحت واضحة لديك، وعلينا الآن البحث عن آليات لتطبيق ذلك على أرض الواقع، وهذا ما ستجده في كتاب "التعلم الطبيعي- التعلم السريع".

الدكتور محمد ابراهيم بدرة

دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.