في حال تأملك في كيفية سير العملية التعليمية في مدارسنا وجامعاتنا بل وحتى في الكثير من التدريب ستجد أن المحاضرات تسيطر على طرق الإلقاء. فكم من المحاضرات تلقيت في حياتك؟ وكم مرة دخلت الصف لتجد المعلم يمطرك بوابل مستمر من المعلومات؟ وكم مرة دخلت الصف بنشاط ووجدت نفسك بعد وقت قصير تقاوم النعاس أو تستسلم لغفوة صغيرة عساك تستعيد نشاطك بعدها؟

وبما أن المعلم هو المصدر الأوحد للمعرفة والتعلم فهو من يتكلم فقط، وبالتالي يصبح التعليم شفوياً ومجرداً، ويصبح المتعلم ممنوعاً من الحركة، بل قد يحاسب على حركته التي قد تُعد علامة على إنشغاله بل في بعض الأحيان دليلاً على عدم القدرة على التعلم. لقد أشار إدوارد هول إلى هذا الانحياز في العام 1976 في معرض مراقبته لنظام المدرسة الأميركي، وما زالت كلماته صالحة حتى اليوم: "إن الطريقة التي يُعامل بها الأطفال في المدارس هي الجنون بعينه، فالأطفال الذين لا يطيقون السكون يوسمون بفرط النشاط، ويُعاملون وكأنهم هم الشواذ، وغالباً ما يتم علاجهم كمرضى أيضاً".

إن التعليم بشكله التقليدي ينافي كل من نظريتي كولب وبلوم الشهيرتين في هذا المجال، فنظرية كولب تعتمد على تقسيم الطلاب إلى أربعة فئات من حيث أنماط التعليم لديهم. فالنمط الاستيعابي يميل إلى استيعاب المعلومات من خلال النماذج والنظريات، أما النمط التقاربي فهو يميل إلى جمع المعلومات بغرض حل المشاكل، أما النمط التواؤمي فهو عادة ما يلجأ إلى وضع الأفكار التي تعلمها حيز التطبيق، والنمط الاخير هو التباعدي الذي يرتكز نمطه على الابداع حيث يسعي لتكوين عدد من التفاسير للتجربة الواحدة. وكما هو واضح فإن تحقيق قدر معقول من التوازن بين هذه الأنماط لا يتحقق بدون اعتماد التعلم على التجريب وتطوير الأفكار وإفساح المجال للابداع، وهذا كله لا يتوفر في التعليم التقليدي. إذ أن التركيز غالباً ما ينصب على الاهتمام بجانب الذكاء الحفظي للتلميذ، من خلال حفظه لمجموعة المعارف والمفاهيم، وإهمال أنواع الذكاءات الاخرى.

 أما تصنيف بلوم فيوضح أهداف العملية التربوية بشكل مبسط حيث يحتوي على ثلاثة أهداف: الهدف العرفي: ويشمل الالمام بالمعلومة ثم فهمها_ ثم التحول إلى مرحلتي التطبيق والتحليل فالتركيب واخيرا التقييم. أما المستوي العاطفي فهي يشمل تهيئة الميول العاطفية تجاه المادة المراد تعليمها بعد ادراكها ليكون من الممكن التفاعل معها ثم فههما ثم إدخالها في المنظومة القيمية للشخص وأخيراً التحول إلى عادة سلوكية دائمة. والهدف الأخير هو الهدف المهاراتي الذي يبدأ بالمحاكاة ثم اتباع التعليمات فالدقة فمرحلة دمج المهارات وتكاملها وأخيراً مرحلة الخبرة المستقرة.

من الواضح أن التعليم التقليدي الذي يركز على التلقين ويشل الحركة الجسدية ويميل إلى اعتبار التقييم النهائي هو المقياس الوحيد لنجاح أو فشل المتعلم يتنافى بالضرورة مع تم ذكره من أهداف التعلم حسب نموذج بلوم. لذلك سرعان ما يمحي المتعلمون ما تعلموه بمجرد الانتهاء من الامتحانات. ونادراً ما تتحول المعارف القيمية إلى عادات سلوكية إيجابية لها صفة الديمومة.

لقد أدى التلقين المستمر إلى زيادة اعتمادنا في التعلم على الكتب، أتذكَّر ما كان يحدث معي وزملائي في أيام المدرسة أو في الجامعة أو حتى عندما حضرنا دورة لمدرب كبير في التنمية البشرية، أتذكر أننا لم نكن نستطيع أن نجاريه بالتالي لابد من الكتابة ورائه، بل وفي أحيان كثيرة لا نستطيع المجاراة في الكتابة فكنا نقوم بتسجيل المحاضرات، أو نلجأ لمن استطاع الكتابة، أو نعود في النهاية إلى الكتاب.

لم يتم الاكتفاء بالتلقين بل هذا دفعنا إلى العودة إلى الكتاب كي نتعلم منه وهذا هو المرض بعينه، لقد أصبح الكتاب هو مصدر التعلم (هذا لا ينفي حقيقة أن الكتاب مصدر مهم للمعلومات). ولم نعد مضطرون للانغماس في السياق الحقيقي للمعرفة من أجل التعلم، لقد تمكنا من التعلم (إن كنا تعلمنا) بمعزل عن أي شخص أو أي شيء آخر: بقراءة الكتب ودراستها! وأصبحنا كلما قرأنا كتباً أكثر، ازدادت قدرتنا اللفظية، وإمكانيتنا على تحليل الرموز اللغوية بسرعة أكبر، وازدادت "ثقافتنا". حتى أنك لن تُمنَح أي شهادة علمية إذا لم تقم بكتابة كتابك الخاص: أطروحة التخرج. لقد تم إجبار دماغنا الصوري على أن يكون دماغ كلمات. عندما نقوم بتصميم برنامج تدريبي نجد أننا ننفق جل وقت التحضير في إعداده واختيار كلماته في العنوان وفي الأهداف وفي الشرائح وفي التمارين وعلى شاشات الكومبيوتر، لقد تحولنا إلى مصممي كلمات وليس مصممي تجربة تعليمية كما هو مطلوب.

بينما لو عدنا إلى الماضي القريب، مئة عام أو أكثر بقليل، لوجدنا أن الاحتكاك بالآخرين والتجربة العملية والانغماس في التجربة العملية كان أساس التعليم، وليست الكتب فقط.

إن التلقين من المعلم لم يسمح للمتعلم بالمشاركة ولا بإبداء رأيه ولا عرض همومه، مما يؤدي إلى سلبية كبيرة عنده، وإلى خبو التحفيز لديه، أما أن تكون القراءة هي مصدر التعلم فلقد عززت تركيزنا على الكلمات وليس على الصور، مما جعل تعليمنا يصبح خطياً يعزز المبادئ النظرية ويرفعها فوق التجربة العملية، بشكل يرفع الدماغ الأيسر فوق الأيمن، وهذا كله يساهم في تعزيز الفردية في التعليم على حساب التعاون.

الترياق:

عندما بدأ رجالاً مثل دافينشي وبيكن ينظرون إلى العالم من حولهم بنظرة مختلفة ليبحثوا عن أشياء تستحق الاكتشاف، لمْ يكن كافياً بالنسبة لهم أنْ نصدّق شيئاً لأنه فقط موجود في كتاب. وليس غريباً أن نسمع أن فرنسيس بيكن من العصر الإليزابيثي في إنكلترا، وُجد ميّتاً من الصقيع بعد أنْ خرج من عربته في هايغيت هيل ليضع الدجاجة خارجاً في الثلج، لأنَّه أراد أنْ يجرب إذا كان البرد يساهم في حفظها.

إن التجربة هي خير معلم، لا بد من أن نحاول قدر المستطاع أن نتجنب التلقين الجاف، ونشجع التعليم بالتجربة. تذكر معي متى تعلمت شيئاً رسخ في ذهنك مباشرة؟ أعتقد أنه لم يكن من الاستماع إلى محاضرة أو التحديق بشاشة الكمبيوتر أو من خلال قراءة كتاب ما، وإنما كان من خلال تجربة عملية قمت بها، أو من خلال أدائك لعمل ما بشكل مباشر، أي من خلال حركتك. إذاً، لزيادة فعالية التعليم، لا بد من التركيز على قيام المتعلم بالتجربة أكثر من ارتكازه على الكلمات، سواء في غرفة الصف أو على شبكة الإنترنت.

بدأت إيلاف ترين بتقديم دورات تدريب المدربين منذ بدايات 2006، وتستمر هذه الدورة لمدة اثني عشر يوماً ولمدة عشر ساعات يومياً تقريباً، ويتم في اليوم الأخير منها اختبارين، الأول مهاراتي، والثاني معرفي والذي يتم فيه اختبار المتعلم بأربعة كتيبات يتجاوز عدد صفحاتها الألف صفحة والتي يتعرف عليها أثناء الدورة. وكانت نسبة الاجتياز لا تتجاوز الـ 70% في أحسن الأحوال. وفي عام 2007 تم تعديل منهاج هذه الدورة وتم إدخال روح التعلم السريع في كل جزئياتها تقريباً وخاصة عنصر زيادة الأنشطة والحركة للمتعلمين. وقامت شركة "إيلاف ترين الدوحة" بتقديمها لأول مرة هناك في فبراير 2008، وكانت النتائج أكثر من مذهلة، حيث أنَّ نسبة الاجتياز 100%، ناهيك عن النشاط الذي لم يفارق المتعلمين من الثامنة صباحاً إلى السادسة مساءً، حتى أن المدرب المعروف عبد الرحمن الحرمى قال عن هذه الدورة: "ما تميزت به هذه الدورة عن غيرها أنها لا تعطي معلومات، وإنما فتحت لنا أفق نستطيع من خلاله أن ننطلق وبقوة."

"لا بد في التعلم من وجود الكتب والتجربة العملية جنباً إلى جنب. إلا أن الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هي: إذا أردت المعلومات فعليك بالقراءة، أما إذا أردت الفهم، فعليك بالتجربة". فالتعليم الأفضل والأسرع يأتي من التجربة العملية أكثر بكثير مما يمكن أن يأتي من المواد التعليمية أو العروض الجذابة أو الكتب مهما بلغت درجة تنظيمها وحسن إعدادها. لا يمكنك أن تتعلم قيادة السيارة إلا بقيادتها، ولا البيع إلا عند قيامك به، ولا السباحة إلا عن طريق السباحة، ولا التدريب إلا عند قيامك بالتدريب، وهكذا. إن التعلم يأتي من القيام بالعمل، وليس من مجرد سماع شخص ما مهما بلغت خبرته، يتحدث عنه، أو من مجرد القراءة عنه.

إن الدماغ رغم صغر حجمه الذي لا يتجاوز وزنه 2% من وزن الجسم، يحتاج إلى 20% من كمية الأوكسجين التي يحصل عليها الجسم. وبالتالي تكون الحركة أثناء التعلم أمر مطلوب لأنه من الضروري جداً بالنسبة للدماغ أنْ يحصل على الكمية الكافية من الأوكسجين، فإذا كانت الكمية التي يأخذها الدماغ من الوسط الخارجي محدودة فإن التزويد بالأوكسجين سيتناقص في جميع أنحاء الجسم قبل أنْ يتناقص في الدماغ نفسه. ويأخذ الدماغ الأوكسجين بالدرجة الأولى من حركتنا.

بعد هذا العرض الموجز لما سميناه مجازاً "مرضاً تعليمياً تربوياً" يصبح واضحاً أن ما يعطي هذا المرض قوته هو تحوله إلى بديهيات في التعليم، واعتباره الشكل الذي كانت عليه الأمور وستستمر عليه. إننا بدون شك بحاجة إلى ثورة حقيقية للتخلص من هذه الأمراض التي حولت التعليم إلى عملية غير فعالة، وغير طبيعية كئيبة وصعبة، حولت المعلم إلى مركز العملية، وحولت المتعلم إلى مستهلك دون إبداع. وحولت بيئة التعليم إلى سجن مخيف ينتشر فيه الملل والكآبة والخوف، وحولتنا كبشر إلى معاقين تعليمياً.

إذا استطاع الطبيب تشخيص المرض وصل إلى نصف الحل وهان عليه وصف الدواء. وفي حال اهتمامك بالتعليم وتحسينه فلابد أن الكثير من الأمراض الواردة سابقاً وطرق علاجها أصبحت واضحة لديك، وعلينا الآن البحث عن آليات لتطبيق ذلك على أرض الواقع، وهذا ما ستجده في كتاب "التعلم الطبيعي- التعلم السريع".

الدكتور محمد ابراهيم بدرة

دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.