خلق الله سبحانه وتعالى العقل البشري وأروع ما فيه إمكاناتٍ هائلة في مجال التعامل والمعلومات. وعلى الرغم من ذلك فإّننا كثيراً ما نُحجِّم تلك القدرات الهائلة بإصرارنا على التعلُّم بالشكل التقليدي العقيم، الذي يجعلنا نُفعِّل جزءاً يسيراً جداً من مقدراتنا العقليَّة الهائلة. في هذا المقال سنتعرض إلى إحدى الوسائل التي يمكن أن نستخدمها في تفعيل عمليَّة التعلُّم السريع والتي على الرغم من أهميتها ولأسباب عديدة نادراً ما نستخدمها. إنّها الموسيقا. قد تبدو فكرة استخدام الموسيقا في الدروس التعليميَّة مستغربةً بل مستهجنةً لدى البعض، فما اعتدنا عليه هو ارتباط عمليَّة التعلُّم لدينا بمفردات مُحدَّدة كالصرامة، والوقار، والضبط والانضباط، بينما ارتبطت الموسيقا لدينا بمفردات معاكسة مثل ضياع الزمن والرومانسيّة وعدم الجديّة.

إذاً قد يُنظر إلى الموسيقا بأنها متناقضة بشكلٍ أو بآخر مع التعلُّم. وتأسيساً على ذلك التناقض الافتراضي، يستهجن التربيون التقليديون استخدام الموسيقا في الفصول التعليميَّة خوفاً من تحوّل العمليَّة التعليميَّة من الجديّة إلى الهزليّة، كما أنّهم يتخوّفون من المساس بقدسيّة التعليم. حتّى عندما يُسمح بإدخال الموسيقا وفي أضيق الحدود إلى الصف التعليمي، فعادةً ما يكون ذلك في الفصول ما قبل المدرسيَّة أو في أحسن الأحوال في قاعات تعلّم اللغات الأجنبية.

لكن واقع البحوث العلميَّة المختلفة يُوكِّد أنّ الموسيقا -إذا أحسن استخدامها- يمكن أن تساهم في عمليَّة التعلُّم السريع. لذلك يوصي التعلُّم السريع باستخدام الموسيقا كأحد التقنيات المساعدة للتحصيل العلمي.

قبل البدء في محاولة تفسير ذلك دعونا أولاً نُعِدْ تعريف الموسيقا... فما الموسيقا؟

تُعرّف الموسيقا بأنّها فن تنسيق الأصوات وترتيبها بشكلٍ يمس الأفكار والأحاسيس. والموسيقا كما يعرّفها قاموس  (Webster)هي علم وفن تنظيم النغمات على أساس من التناغم، والانضباط  والاعتماديَّة المتبادلةبين  تلك النغمات.

بهذا الفهم المُحدَّد والدقيق يجب ألّا نخلط بين الموسيقا كنغمات منتظمة من جهة، وبين ما يحدث من فوضى في استخدام هذه التقنيَّة كما نراها في عالم اليوم من جهةٍ أخرى. إذن نحن لا نتحدَّث عن تحويل الصفوف التعليميَّة إلى حفلٍ صاخب، بل إلى استخدام النغمات المنتظمة كتقنيَّة مساعدة على التعلُّم بشكلٍ أسرع.

والربط بين الموسيقا والتعلُّم ليس أمراً مستحدثاً، فقدماء الإغريق مثلاً كانوا يربطون بين قراءة الكلمات والموسيقا، حيث يجتمع الناس كل 4 سنوات، ثم يبدأ المحاضر بتلاوة الإلياذة برتمٍ خافت يشابه ضربات القلب مستخدماً القيثارة. وبعد انتهائه يصبح من السهل على الحضور ترديد فقرات كاملة من الإلياذة من الذاكرة فكيف يحدث ذلك؟ وما الرابط بين العاطفة والذاكرة؟

لقد أثبتت البحوث أنّ الدماغ يمكن تقسيمه بشكلٍ إجمالي إلى 3 أجزاء رئيسة كما في الشكل أدناه:

  • دماغ الزواحف (Brain Stem) والذي يمثّل الجزء الأسفل من الدماغ وهو موجود في كل الإحياء البدائية ومسؤوليته الحفاظ على بقاء الكائن الحي.
  • الجهاز الحوفي (Limbic Brain) الذي يمثّل الدماغ الأوسط ويطلق عليه الدماغ العاطفي والاجتماعي وهو مسؤول عن العاطفة والذاكرة طويلة الأمد.
  • القشرة الحديثة (Neo-cortex Brain) التي تمثّل الدماغ العالي وهو الذي يُميِّز الإنسان عن بقيّة الكائنات الأخرى. وهو المسؤول عن التفكير النقدي واللغة وغيرها من العمليات العقليَّة المعقّدة.

ما يهمّنا هنا في معرض حديثنا عن الموسيقا هو الدماغ الأوسط. فحقيقة أنّ الجزء المسؤول عن العواطف هو ذاته المسؤول عن الذاكرة طويلة الأمد يفسّر لنا سبب بقاء الأحداث التي تهزّ مشاعرنا أمداً طويلاً في ذاكرتنا.

وإحدى مهام الدماغ الأوسط أيضاً تحليل المعلومات ذات الارتباط بالمشاعر، لذا عندما نكون في حالةٍ من الغضب أو الضغط النفسي أو الخوف والقلق فإنّ الدماغ لا يكون في حالةٍ جيّدة لتحليل المعلومات. كما تعمل المشاعر السالبة على تقليل كفاءة الدماغ العالي (القشرة الحديثة). في مجال التعليم يعني هذا أنّ الضغط النفسي والتوتّر يعيق العمليَّة التعليميَّة، وأنّ المشاعر الإيجابيَّة كالمتعة والفرح مهمّة للغاية من أجل عمليَّة تعليميَّة أكثر كفاءة.

وقد تناولت عدّة بحوث علميَّة أهميّة إدخال الموسيقا في التعلُّم. ولعلّ أكثر تلك البحوث شهرة ًهو الذي قام به جورج لازونوف عام (1978) والذي يُوكِّد فيه أنّ للموسيقا أثراً رائعاً في خفض التوتر.

وتمّ تدعيم بحوث لازانوف بعد ذلك بعددٍ من البحوث الأخرى. فعلى سبيل المثال أثبتت بحوث (Lehmann & Gassner-Roberts 1988) وبشكلٍ تفصيلي العلاقة المباشرة بين التعلُّم السريع والموسيقا، حيث أكّد ليمان أنّ استخدام الموسيقا سواء في العلاج النفسي أو في إعادة تأهيل الأطفال الذين يعانون من صعوبةٍ في التعلُّم، يمكن أن يساهم في تعديل السلوك والذي بدوره يعمل على تسريع عمليَّة الاستطباب النفسي والعقلي. وقد أوضح ليمان كذلك أنّ الموسيقا في السياق التعليمي الاعتيادي يمكن أن تشكّل لغة تواصل أخرى، وذلك لأنّ للموسيقا تركيبة مثاليّة من القدرة على تحفيز وإثارة عناصر التأثير والإدراك ممّا يعمل على الزيادة في القدرة على تخزين المعلومة ومن ثمَّ تحسين المقدرة العقليَّة للطالب.

وفي حين يوصي بعض الباحثين باستخدام موسيقا الباروك (Baroque) لتحقيق الزيادة في التعلُّم السريع إذ إنّ نغماتها تماثل موجات الألفا الدماغيّة، يُوكِّد آخرون أنّ هناك أنواعاً من الموسيقا يمكن أن يكون لها تأثير عكسي على العمليَّة التعليميَّة كموسيقا الروك rock music مثلاً، كما أنً موسيقا الوالتز (waltz) (كموسيقا الرومبا والجاز) يمكن أن تعمل على تحفيز الطاقة.

وعلى الرغم من ذلك فإنّ الموسيقا وحدها ليست كافية لتسريع التعلُّم إذا ما صاحبتها عوامل سلبيَّة كالضوضاء أو الغضب، فالموسيقا وحدها ليست عصا سحريَّة بل هي وسيلة مساعدة فقط.

يمكن إجمالاً القول إنّ استخدام النوع الصحيح من الموسيقى بصوت هادئ عند التعلُّم أو التدريب، يساهم في التوافق والانسجام اللازم لتسريع التعلُّم. كما  يمكن الاستعاضة من الموسيقا التي تستخدم فيها الأجهزة بالموسيقا الطبيعيَّة مثل حفيف الأشجار وصوت ارتطام البحر بالشاطئ. فالخروج إلى الطبيعة في أثناء العمليَّة التعليميَّة يسمح بتقبّل الدماغ بشكل أرحب لتمارين التعلُّم السريع.