إنّ المعرفة باتت تحيط بنا من كلِّ جانب، ولم تعد المدرسة المركز الوحيد لمعرفة ما يوجد هناك خلف البحار، خلف الحدود وخلف العقول، فالعالم اليوم صار قريةً صغيرةً يعرف كل واحد فيها أخبار الآخر في لحظاتٍ وبدون عناء، وأينما جُلنا بنظرنا رأينا تلك المعرفة مُخزنةً مُتجدِّدةً في تلك الصناديق العجيبة

يشتكي الكثيرون من هذا الجيل الصاعد، يقولون: أي أطفال هم هؤلاء؟ وتبدأ الموازنة بين أطفال الأمس وأطفال اليوم، كيف كنا وكيف هم؟ ويُجمِع الجميع على أنّ طفل اليوم بلا جدال مختلفٌ تماماً عن طفل الأمس. إنّه طفل أكثر جرأة وأكثر انفتاحاً وأكثر تطلُّعاً، إنّه ببساطة طفل عصره، عصر التقنيات والتكنولوجيَّة الرقميَّة، عصر الذرّة والسرعة والتطوُّر.

لكنّنا مع هذا نُحاول إلباس هذا الطفل وزر الثمانينيات، نُجلسه على المقاعد الخشبية، ونحشو فكره بالمعلومات والمعارف الجّامدة، نلقن، ونُحفظ، ونملأ عقولاً نحسبها خاوية. ما زلنا نرفض التغيير وإن كنا نتحدَّث عنه. نرفض النّزول من فوق تلك العتبة التي تفصلنا عن أرضيّة القسم، أو نتخلى عن لهجتنا الصّارمة وسلطتنا وعصيّنا وطباشيرنا الذي يملأ الجو غباراً. الكل يتحدَّث عن التغيير، يتحدَّث عن صحوةٍ جديدةٍ لفكرٍ جديدٍ ومُتجدِّد. فكرٌ سيَقلب الأدوار، فيُصبح المُتعلِّم فيه هو المُعلِّم، مُعلِّم ذاته. معتمدٌ على يملكه من قدرات وإمكانات.

وليس على ذلك الكبير الذي يعتقد أنّه المالك الوحيد للمعرفة. إنّ هذا الطفل الذي يجلس أمامنا يعرف أكثر مما يمكن أن نتصور ويملك من القدرات أكثر مما يمكن أن نتخيل، إنّنا نرفض رؤية تلك الذّات التي تبحث لها عن مكانٍ في هذا العالم، ترى وتسمع وتفهم وتستقي مما حولها وتبني تمثيلاتها وتكون تصوُّراتها ومفاهيمها الخاصة من تجاربها ومحيطها. تلك الذات هي ذات هذا الطفل.

إنّ المعرفة باتت تحيط بنا من كلِّ جانب، ولم تعد المدرسة المركز الوحيد لمعرفة ما يوجد هناك خلف البحار، خلف الحدود وخلف العقول، فالعالم اليوم صار قريةً صغيرةً يعرف كل واحد فيها أخبار الآخر في لحظاتٍ وبدون عناء، وأينما جُلنا بنظرنا رأينا تلك المعرفة مُخزنةً مُتجدِّدةً في تلك الصناديق العجيبة. في أجهزة التلفاز، في الحواسيب، في كلِّ تلك الوسائل المُتطوِّرة، وباتت أعيُننا نوافذَ تنقلنا من مكانٍ إلى آخر. والطّفل وسط هذا الزّخم من المعلومات صار في حاجةٍ ماسّةٍ إلى منارة تنير دربه وتوجهه وترشده لينتقي من تلك المعرفة ما يناسب تقاليد مجتمعه وهويته وثقافته، ولمن يثير في داخله الرغبة للمزيد والمزيد حين تشوشه الصور المتلاحقة.

إنّه بكلِّ بساطةٍ في حاجةٍ إلى مُدرِّس مختلفٍ تماماً عن ذلك المُدرِّس التقليدي. يحتاج إليه منشّطاً ومحفزاً ومُرشداً وموجهاً، يمسك بيده ليتقدّم، لا يجرّه خلفه ويسوقه، يُساعده على النهوض حين يتعثّر لا يوبخه ويُعاتبه، يسلّمه اللّبنات ويوفّر له الأدوات ليبني بيديه، بفكره ووجدانه إنّ هذه التغيُّرات التي تعرفها السّاحة التربويَّة ببلادنا قد طالت جلّ مُكوَّنات المنظومة التربويَّة في محاولة حثيثةٍ وجادةٍ لإصلاحٍ جذريٍّ وشاملٍ فرضته التطوُّرات والتغيُّرات التي يشهدها العالم من حولنا، فالتغيير والتحديث والتجديد في الأدوار والمرامي والاستراتيجيات لم يعد خياراً بل أصبح إلزاماً وضرورة. إنّ الثورة التكنولوجيَّة التي يعرفها هذا العصر باتت تجتاح كل بُنى المجتمع الإنساني ومُكوَّناته وتدخل طوعاً وعنوةً لكلّ المجالات وأكيدٌ أنّ المجال التربوي لم ولن يبقى بمنأى عن هذه الموجة الثائرة، ومن يرفض الآن الانصياع لواقع هذه الثورة سريعة التطوُّر قريباً سيقبلها شاء أم أبى، فهاهي الآن تقف على أبوابنا فما العمل؟ أنفتحُ لها الباب مرحّبين بها أم نتجاهلها وننتظر أن تكسر الأبواب فوق رؤوسنا؟ على حدِّ تعبير أستاذنا الجليل "المهدي المنجرة".

لقد أصبحنا الآن أمامَ حقيقةٍ لا بدّ لنا من مواجهتها، إنّ العالم من حولنا يتغير ويتطوَّر. وقد آن الأوان لنحذو حذوه ونواكب هذه التطوُّرات، آن الأوان لنطور من أساليبنا وتقنياتنا ونرقى بها لتكون في مستوى تطلعات وانتظار هذا الجيل الصّاعد، آن الأوان لندلف عالم العولمة الذي طالما خشيناه وحاربناه خوفا مما قد يجره علينا، إن ما يخيف في عالم العولمة ليس ما يحتويه ويضمّه بل المخيف هو خطر التبعيّة العمياء التي تضيع الهوية وتسلخ الشعوب من جلدها فتجعلها مسوخا، لذلك لا بُدّ لنا من تجاوز لحظات الانبهار بهذا العالم الجذاب بأضوائه المتلألئة والساطعة وننظر إلى عمقه وجوهره فنأخذ منه ما يناسبنا، وما لا يناسبنا نعيد تفصيله وتعديله ليصبح كذلك.

ولربّما كان سبب خوف الكثيرين في ميدان التربية والتعليم من موجة التّحديث والتجديد بكلِّ أنواعه هو أن يعصف بكل ما تعودوه في سنوات عملهم السابقة من طرائق وأساليب وأيضاً لاعتقادهم أنّ هذا الجديد لن يقدم أو يؤخر من واقع ميؤوس منه، ألا وهو واقع التعليم ببلدنا، وهذا ما حذَا بالكثيرين على الرغم من كل الجهود المبذولة بأن ينأوا بقواربهم بعيداً عن موجة الإصلاح الهادرة معتقدين بأنّهم بذلك آمنين. إنّ ما نحن مقبلون عليه ليس مجرد موجةٍ عابرةٍ نحني لها الرؤوس حتى تمر. فلا بدّ لنا من مواجهة الحقيقة فوسائلنا التقليديَّة وأساليبنا العتيقة، ومعارفنا المستهلكة ما عادت تغري هذا المُتعلِّم الذي أمامنا، وإدماج التقنيات الحديثة وتكنولوجيا المعلومات والاتصال كما وسبق الذكر صار ضرورةً لا مناص منها. إنّ مقاومة التغيير والتجديد هو أمرٌ فطريٌّ أثبته التاريخ في مواقف عديدة، وهو مرتبطٌ بالأساس من خوف الإنسان من المجهول وكذا من ميله إلى الاستقرار والأمان الذي يلقاه فيما تعوده وألفه، وكلُّ محاولة لقلب هذا الاستقرار وتغييره يدفع بالإنسان إلى اتخاذ مواقف دفاعية غالبا ما يغيب فيها التفكير المنطقي والعقلاني، وكثير هم الذين يعتقدون أنّ الاستقرار هو منبعُ الأمن لكن ثبت أنّ العكس صحيح فالاستقرار هو نقيضٌ للحياة: واستقرار المادة لا يتم إلا بموتها.

والنّهر الجاري ليس كالمستنقع الرّاكد، لذلك لا يمكن أن نلوم أولئك الذين رأوا في التجديد الذي بدأ يدبُّ في المنظومة التربويَّة كما دبّ في جُلِّ المنظومات الأخرى تهديداً وبادروا إلى مقاومته فهذا أمرٌ طبيعيٌّ وكما أثبت التاريخ وجود هذه المقاومة أثبت أيضاً وجود قوى أُخرى تُبادر إلى التّجديد وتدفع بعجلته إلى الأمام وفي تقدمها تزداد قوةً واتساعاً ككرة الثلج، وإذا ما رجعنا إلى الوراء سنواتٍ قليلةً وجدنا أنّ واقع إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في بلادنا كان حلماً يراود قلة قليلةً ممن سارعوا خلف العجلة يدفعونها لتتحرك ومن حولهم يضحكون ساخرين كيف لعجلة إدماج التكنولوجيا أن تشق طريقها وسط هذا الزخم من المعضلات التي يرزح تحتها نظامنا التعليمي، لكن صيحات اليأس التي كانت تتعالى هنا وهناك لم تثن أولئك المجددين الحاملين للواءِ التغيير، وبعد سنواتٍ بدأ واقع إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال يفرض نفسه أكثر وأكثر، وهكذا قَبِل الكثيرون بهذا الواقع ولم يعد الجّدال دائراً حول ماهيّة هذا الإدماج أو أثره في العمليَّة التعليميَّة التعلميَّة فلا أحد يمكن أن ينكر أنّ هذا الجيل يتفاعل بشكلٍ أكبر مع الوسائط السمعيَّة البصريَّة وقد أثبتت الدراسات أنّ المُتعلِّمين خصوصاً في مراحل نموهم المُبكِّرة يتعلَّمون بشكلٍ أسرع وأكبر باعتماد حواسّهم من سمعٍ وبصرٍ ولمسٍ وبها تتطوَّر مداركهم وقدراتهم الذهنيَّة والعقليَّة، وحتى أولئك الذين يرفضون التغيير والتجديد لا يستطيعون الآن أن ينكروا هذه الحقيقة لكنّ المشكلة التي لا بد لنا من الوقوف عندها تتمحور حول الإجراءات التطبيقيَّة لإدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في التدريس حتى لا يجرفنا انبهارنا بهذا العالم السّحري بعيداً عن سبب دخولنا إليه وسبب تواجدنا فيه وهو الحاجة التربويَّة أولاً وأخيراً والتي أملتها علينا هذه الثورة التكنولوجيَّة الهائلة، إنّ غياب التصوُّرات البيداغوجية التي تؤطّر عمليَّة الإدماج يشكل خطراً وعائقاً يحول دون تحقيق الغاية التربويَّة منه، وهذا ما يدفعنا إلى طرح التساؤل الكبير حول كيفيَّة ضمان إدماج تربويٍّ مُمنهجٍ لتكنولوجيا المعلومات والاتصال بالمدرسة الابتدائيَّة مقدمة بحث تحت عنوان: "إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال بالمدرسة الابتدائيَّة نحو إدماج ممنهج"