التعليم والتدريس والتلقين: نقل للمعلومات من المعلم إلى المتعلم، مع ما يرافق ذلك من شرح وتوضيح، وتقريب وتوثيق، وإسناد وبرهنة، واستدلال وتأديب، وتربية ونصح.

والتعليم هو الوجه الآخر للتعلم، فلا تعلم بلا تعليم، ولا تعليم بلا تعلم.

ولذا كان المعلم قرين المتعلم وشريكه في كل شيء، إلا أن المتلعم هو المتلقي، والمعلم هو الملقي، وبينهما من الفروق والاتفاق أشياء كثيرة وعديدة.

وجهان لعملة واحدة:

وإن مما نؤكده: أن الإسلام كما حض المتعلمين على العلم ودفعهم إليه ونبّههم على فضله وأعلى مراتبهم وأعظم مثوبتهم... فهو من باب آخر وطريق مقابل حض على التعليم وفرضه على العلماء، ووعدهم عليه بالثواب الجزيل والخير العميم، وجعلهم ورثة للأنبياء والمرسلين، يقومون مقامهم ويؤدون مهمتهم، وأعطاهم من الجزاء مثل جزاء من يعلمونهم ويدرسونهم ...

وبمثل هذا الموقف العظيم للإسلام دارت عجلة التعليم في الأمة قديماً وحديثاً، وتناقلت الأجيال العلوم والمعارف والكتب والروايات، وبنت الشعوب الإسلامية في كل أقطارها المدارس على مختلف مراتبها، رغم ظروف الحياة القاسية والفقر المدقع والمشقة الظاهرة.

وأكثر من هذا، فقد تنافست في التشجيع على العلم، وتهئية الأجواء المريحة فيه، وتأمين حاجات الطلبة والمعلمين، وإعداد الحوافز المادية والمعنوية، ورصد الأموال النفسية وإيقافها على ذلك.

التعليم واجب وفرض:

ونستدل على إيجاب التعليم بقوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )(آل عمران: من الآية187).

ونستدل على التشنيع على من لم يعلّم وهو يعلم بقوله سبحانه: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة146).

ونستدل على تهديد المعرضين عن التعليم بعد أن تعلموا بأشد أنواع العذاب بقوله صلى الله عليه وسلم: (من علم علماً فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.

ونستدل على الأجر العظيم للملعمين بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه، حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت، ليصلون على ملعم الناس الخير) وبقوله صلى الله عليه وسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله).

وعلى أن ثواب عمل المعلم لا ينقطع حتى ولو طوته طبقات الأرض بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).

إن بعض السلف جعل العلماء ووجودهم بين البشر علامة فارقة على الإنسانية تميزها عن الحيوان، قال الحسن رحمه الله: (لولا العلماء لصار الناس كالبهائم).

آداب المعلمين الشرعية:

ولهذا فإن للمعلمين في مهمتهم ورسالتهم آداباً شرعية اهتم العلماء ببيانها وتوضيحها وأسهبوا في شرحها والتأكيد عليها، على النحو التالي:

أولاً: التلميذ أمانة في يد الأستاذ:

المعلم أمين على المتعلم، وعلى عاتقه تقع مسئولية كبيرة في تكوين شخصيته وتشكيل أفكاره وتربية نفسه. والآباء حينما يرسلون أبناءهم وفلذات أكبادهم إلى المعلمين فإنهم ينزلونهم منزلتهم ويحلونهم مكانهم، لأن الأب معلم والمعلم أب.

ومن مقتضيات ذلك أن المعلم يمنح ثقة كبيرة من قبل الآباء بقدر عظم الأمانة التي تسلم إليه، فإذا حاد عن الطريق، أو خان الأمانة، أو لم يَرْقَ إلى مستوى المسئولية كان ضرره على المتعلمين والأمة والمعلمين أنفسهم كبيراً وخطيراً.

ثانياً: التعليم رسالة سامية منذ القديم:

إن أخلاق المعلمين والمدرسين منذ القديم وحتى اليوم وما ينبغي أن تكون عليه في المستقبل واحدة، على الرغم من تغير كثير من ظروف التعليم ووسائله وأماكنه وموارده. ففي القديم كان التعليم يتم بالنسبة للمكان في المساجد أو المنازل أو في الهواء الطلق أو على الأرض.

أو يتم بالنسبة للوسائل بالحفظ في الصدور، أو بالكتابة على جلود الحيوانات ولحاء الشجر وألواح الخشب أو غير ذلك. ولكنه اليوم يتم في المدارس والمعاهد والجامعات، وتؤمن له المكتبات الحديثة، والبرامج الكمبيوترية، والأدوات السمعية والبصرية المتطورة، وتكفل المعايش والنفقات للمدرسين وإدارييهم، بل تقدم لهم ولطلابهم الوظائف والضمانات الاجتماعية والترقيات الإدارية...

ومع كل هذا التطور في الأساليب التعليمية والوسائل الموصلة إلى العلم، فإن هناك ضوابط أدبية وأخلاقية ودينية لا تزال مطلوبة من معلم اليوم والغد، كما طلبت وقام بها معلم الأمس والماضي.. ولا يستطيع المعلم اليوم أن يتحلل من تلك الضوابط تحت أي حجة أو وراء أي عذر أو في أي ظرف...

فالتعليم هو التعليم في كل جيل وزمان ومكان، ولا يجوز أن يتحول المعلم اليوم إلى موظف ليفقد أهم خصائصه ومميزاته.

ثالثاً: قدوة أخلاقية وسلوكية:

إن آداب التعليم أن يكون المعلم القدوة الأخلاقية والتطبيقية للتلميذ لا في أثناء الدرس فقط بل في الحياة كلها، لأن أعين المتعلمين معقودة بالمعلمين، حيث يجعلونهم مثلاً لهم وقدوة. فالحسن ما حسنوه لهم والقبيح ما قبحوه أمامهم، والصواب ما فعلوه والخطأ ما تركوه...

إن المعلم معلم لا بلسانه فقط، بل بلسانه وسلوكه وهيئته وحركاته وثيابه وطعامه وكل ما له به صلة.

وما أقبح من يعلم الناس خلقاً أو حكماً أو فائدة أو مسألة ثم يخالف إلى ضدها... كالأستاذ الذي يدعو الطلبة إلى حسن الأخلاق وطيب الكلام وجمال المظهر وفاضل السلوك، ثم يرونه يكذب بلسانه، ويفحش في كلامه، ويفسق في دينه، ويهمل في هندامه، ويسيء إلى زملائه، ويبيع دينه ودنياه ومبادئه بأبخس الأثمان وارخض المتاع...

لقد تصور المسلمون المعلم صانعاً ماهراً يصنع المتعلم على مثاله، وينسج خيوطه على منواله، فاستشنعوا منه أن يكون معلماً بلسانه مفسداً بسلوكه!!. حتى قال قائلهم:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم.

رابعاً: حب المتعلمين والشفقة عليهم والتضحية لهم:

ومن آداب المعلم النصح للطلبة والتلاميذ، والشفقة عليهم والرحمة بهم. وإذا كان هذا الأدب ظاهراً بيناً واضحاً في المعلم تألفت حوله القلوب، وأسلمت إليه النفوس قيادها، واستفاد منه المتعلمون علماً وخلقاً...

ويكفي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو المعلم الأول والقدوة لكل المعلمين ـ قال عن نفسه: (إنما أنا لكم مثل الوالد لولده).

ومقتضى هذا أن يخلص المعلم نيته في إفادة الطلبة، سواء في علوم الدنيا أو الآخرة. كما ذكر الله سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم).

وصدق الله في ذلك، فقد كان عليه السلام دائم الإحسان لأمته، رحيماً بها. يقول بصراحة: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بكذا وكذا).

وتصفه عائشة في رحمته بأمته وسماحته في توجيهها فتقول عنه: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم).

وإن من النصح للتلاميذ ومن الإخلاص في تعليمهم: أن تأخذ المعلم الغَيْرةُ على طلبته إذا أخطؤوا أو قصّروا، وأن يحس أن النقص حاصل منه واقع بسببه، فيراجع نفسه وأسلوبه وأحواله، ثم يلتفت إلى الطلبة فيتفقد أحوالهم وأسباب التقصير أو قلة الاهتمام أو عدم الفهم، فيحرضهم ويثير هممهم، ويحرك الرغبة فيهم، ويذكر لهم القصص المؤثرة والحكم النافعة والأقوال المؤمِّلة، حتى لا ييأس طالب من النجاح، ولا يحس طالب بالعجز، ولا يرضى طالب بالتراخي.

خامساً: هل هدف التعليم المال أولاً؟!

ومن آداب المعلم في تعليمه: أن لا يجعل المال الهدف الرئيس الأساسي الذي يحركه أو يقطعه... وينشطه أو يثبطه... فهذا في الحقيقة نزول إلى الدرك الأسفل، وتحول عن سدة الرسالة، وانصراف عن قصد الآخرة.

بل المعلم ـ وإن كان بشراً كباقي البشر يحق له أن يطالب بتحسين أحواله المعيشية، ويجدر بالأمة أن تلتفت إلى ذلك بجدية ـ صاحب رسالة دينية ومهمة إنسانية ومقام رفيع، يجدر به أن تكون نيته في الأصل خالصة لوجه الله، ممحضة لخدمة الأمة، موجهة نحو الارتقاء بالنفوس وتهذيب الأخلاق، وتطهير الناس عن درن الجهل، أياً كان علمه الذي يعلمه.

وقد كان هذا شأن السلف الصالح وأعلام المعلمين، اقتداء منهم بصاحب الشرع صلوات الله سلامه عليه، الذي لم يطلب على إفادة العلم أجراً، ولم يسأل جزاء ولا شكوراً.

بل علّم لوجه الله تعالى، وطلباً للتقرب إليه، لا يطلب الأجر إلا من الله (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(الشورى: من الآية23) و (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)(هود: من الآية29).

ويكفي العلم شرفاً أنه أعلى مقاماً من صاحب المال، فلا يهبط المعلم بمستوى علمه إلى الأسفل، ولا يتنزل إلى أن يكون متكالباً على الدنيا جموعاً لها، يجري وراءها في كل اتجاه، ويبحث عنها كل حين، وينقب من أجلها عن كل فرصة، حتى يتحول بسلعته إلى تاجر يساوم مساومة الحريص ويشترط شروط الشحيح، ويقنن ضوابط ودقائق وقيوداً للمدة والمعلومة والنتيجة لا تخطر على بل.

وإذا فعل المعلم ذلك ـ والعياذ بالله ـ فلا ينبغي أن يطالب بعده المتعلم بحق ولا احترام، ولا يجوز له أن يتوقع من تلميذه الاعتراف بفضله أو منته، عليه بعد أن قبض الثمن سلفاً عداً ونقداً. إن الواجب اليوم على الجهات المشرفة على التعليم أن تكفي المعلم وتقوم بحاجاته وتؤمن له متطلبات العيش الكريم.

وفي المقابل على المعلم أن ينوي بتعليمه إسقاط الفرض عن كاهله، والعذر إلى الله في تأدية واجبه.

سادساً: مراعاة أحوال الطلبة:

من آداب المعلم أن يعرف مدارك طلبته وحدود عقولهم ومستوى تفكيرهم، فلا يلقي إليهم بما لا يفهمون، أو يكلفهم فهم ومعرفة ما لا يطيقون.

بل يتدرج بهم بلطف، وينتقل بهم في رياض العلم درجة درجة، ويصبر على بطيء الفهم، ويعيد له ما استغلق عليه. قال صلى الله عليه وسلم: (وإنك لن تحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم).

كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أصحابه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً...

ومن المفيد والمعين للمعلم أن يؤاخي بين طلبته: كل اثنين أو أكثر معاً، حتى يعين بعضهم بعضاً، وينفع أحدهم أخاه، ويحفزه على الجلد والتحصيل.

سابعاً: لا يقبح المعلم على غيره:

من آداب المعلم أن لا يقبح علوم غيره، بل يشجع تلاميذه على الأخذ، من كل العلوم بطرف صالح، دون أن يظهر لهم فضل علمه ونقص علم غيره.

كالفقيه الذي ينعى على أهل الحديث والتفسير، وكالطبيب الذي يتلقى منه تلاميذه ازدراء غير الطب.

وهكذا فالمعلم الناصح الأمين يحبب الطلبة في كل المواد والتخصصات ولا يقع في العلماء الآخرين: لا في أخلاقهم وذواتهم، ولا في علومهم ومعارفهم، حتى يكون مثالاً طيباً في احترام الطالب لمعلمه، ولبنة قوية في بناء الأمة، وفرداً صالحاً في أسرة المعلمين.